قال عمر رضي الله عنه: “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية” (1).
أقدم هذا القول بين يدي الحديث عن المرأة وبينا المنزلة التي وضعها الإسلام بها، وما لم نعرف شيئاً عن وضعها في الجاهلية فلن نعرف قدر ما فعله الإسلام.
ونترك للفاروق – صاحب هذه المقالة – بيان ما كانت عليه المرأة:
قال رضي الله عنه: “والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم” (2).
كلمات قليلة، فيها البلاغة والإيجاز، تصور لنا تلك النقلة الواسعة التي ارتقى الإسلام بالمرأة إليها فخاطبها كما خاطب الرجل، وطالبها بما طالب به الرجل. . طالبها بالإسلام والإيمان والإحسان. . وبعمل الخيرات والبُعد عن المنكرات. .
فرض على الرجال برها أماً، واحترامها ومودتها زوجة، والعطف عليها أختاً وبنتاً، وحرم الإساءة إليها.
أتاح لها حرية القول، وحرية اختيار الزوج، وجعلها صاحبة حق بالميراث، بعد أن كانت تورث كالمتاع. . وألغى عادة الوأد. .
وفعل الكثير والكثير من أجل أن تعود لها كرامتها التي كرمها بها كما كرم الرجل..
______________________
1. “مفتاح دار السعادة” لابن القيم (2/ 288).
2. رواه البخاري (4913)، ومسلم (1479).
وكان التطبيق الفعلي للأوضاع الجديدة والمعاملة الكريمة يجري وفقاً لفعل الرسولﷺ وأوامره، تنفيذاً وإيضاحاً لأوامر الله تعالى. .
ولقد شفع الرسول ﷺ الفعل بالقول زيادة في الإيضاح والبيان، فتحدث عن حق الوالدة وحق الزوجة والأخت والبنت. .
وبما أن حديثنا عن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، فسنبقى في هذا الإطار التزاماً بموضوعية البحث.
ومن قوله ﷺ: في ذلك:
(خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)
(1).
وتكرر هذا القول في مناسبات متعددة وبألفاظ متقاربة: منها قوله ﷺ:
(أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)
(2) .
وقوله ﷺ:
(وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ)
(3).
وهكذا يضع صلى الله عليه وسلم الميزان الحق الذي تقاس به فضيلة الرجل وخيريته، وهو حسن معاشرته لأهله ومصاحبته إياهم، وبمقدار ما يرتفع هذا المستوى في الحسن بمقدار ما يرتفع عنصر الخير فيه.
والأحاديث هنا، وإن كانت بصيغة الخبر، لكنها في حقيقة معناها توجيه كريم، وحث للمسلم على الوصول إلى هذا المستوى من الخير، بالإحسان إلى زوجته وحسن معاملتها.
______________________
1. رواه الترمذي (3895)، وابن ماجه (1977).
2. رواه الترمذي (1162).
3. رواه ابن ماجه (1978).
وهذا الميزان من أدق الموازين يستطيع الإنسان أن يختبر به نفسه بالدرجة الأولى، فإذا لم يشعر بالود والحنان والحنو ومشاعر الخير تجاه زوجته، فذلك يعني أنه ناقص الخيرية بمقدار النقص الموجود لديه. .
خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ. . خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ.
كيف نتوقع من إنسان الخير للناس ، إذا لم يكن هذا الخير موجوجاً لديه تجاه أقرب الناس إليه، زوجته. . التي قال الله تعالى في حقها:
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ }
[الروم: 21].
وكيف لا يكون هذا المقياس صادقاً، وهو قاعدة من القواعد التي وضعها الصادق المصدوق ﷺ، لتكون معلماً عاماً في العلاقة الزوجية، يرجع إليها الزوج ليتأكد من صحة المسار، وتذكره الزوجة بها كلما رأت منه اعوجاجاً.
(وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي).
هكذا قال صلى الله عليه وسلم ليلفت النظر إلى أنه الأسوة والمثال الذي ينبغي أن يقتدى به، ومن هنا كانت معرفة سيرته في مقام الفرض والواجب.
وفي الحديث المتفق عليه قال ﷺ لعائشة:
(كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ)
(1).
وتشرح السيدة عائشة هذا الحديث: بأنه جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فبدأت الأولى فوصفت زوجها، وكذلك الثانية حتى الحادية عشرة التي وصفت زوجها بأحسن الصفات، وهي أم زرع.
فشبه النبي (1). نفسه في تعامله مع عائشة كتعامل أبي زرع مع أم زرع. وهو من تشبيه الأعلى بالأدنى، والمقصود أن أبا زرع كان خير الأزواج في زمنه والرسول ﷺ خير الأزواج على الإطلاق.
______________________
1. رواه البخاري (5189)، ومسلم (2448).
وقد أدركت عائشة المعنى المطلوب فقالت جواباً على قوله ﷺ: بأبي وأمي يا رسول الله، بل أنت خير لي من أبي زرع لأم زرع (1).
ولعل في حديث أم زرع بعض الإيضاح والشرح لقوله ﷺ:
(وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي).
ويرشدنا ﷺ إلى الطريق الذي يوصل إلى هذه الخيرية فيقول:
(اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ)
(2).
وليس في هذا الحديث ذم للمرأة أو انتقاض من قدرها، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول:
{لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ}
[التين].
وإنما هو التعليم لكيفية التعامل مع الأشياء، فالضلع خلق في أصل تكوينه معوجاً، ولو كان غير أعوج لم يصلح للمهمة التي خلق لها، ولكان غير قابل للاستقرار في المكان الذي أعد له.
ولذلك علينا ألا ننظر إلى العوج القائم فيه، وإنما ننظر للمهمة التي أنيطت به، والمكان الذي أعد له، وعندها سنجد أنه لو كان مستقيماً فإنه لن يصلح، ولن نفكر في تقويمه.
إن الحديث الشريف يضع قاعدة للتعامل مع الأشياء عن طريق التعرف على خواصها وطبائعها، والحديث بهذا المعنى من جوامع الكلم التي أوتيها النبي ﷺ.
وإذن فعلى الرجل أن يتعرف على طبيعة زوجته. . وعندها يمكنه التعامل معها بشكل سليم يؤدي الغرض، وهذا الأمر منوط بالرجل لأن مهمة القوامة منوطة به. فعليه أن يسع المرأة.
______________________
1. “فتح الباري” (9/ 275) نقلاً عن النسائي وغيره.
2. رواه البخاري (3331)، ومسلم (7468).
إن “الضلع” الذي تحدث عنه ﷺ وقال:
(فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ)
أي: فقد صلاحيته، ولم يعد قادراً على أداء الدور المطلوب منه كـ”ضلع”.
وخلاصة الأمر: أنه ﷺ طلب من الرجال إحسان معاملة النساء، وجعل ذلك مقياساً لخيرية الرجل، وأرشدنا إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة في ذلك والتي على الرجال تتبعها والعمل على هديها. . وهذا يتطلب معرفة سيرته ﷺ – على الأقل – في هذا الجانب.
ثم بين كيفية التعامل مع النساء، وأن الطريقة المجدية في ذلك هو التعرف على طبائعهن. . وهو أمر ميسور للزوج إذا أحسن أداء مهمته.
وهذا ما كان يفعله ﷺ، ولنضرب مثالاً على ذلك، يكون إيضاحاً للمسألة:
قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى).
قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟
فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ).
قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ
(1).
وهكذا وبالاستقراء لأحوال عائشة رضي الله عنها استطاع النبي ﷺ معرفة حالتي رضاها وسخطها بواسطة القرائن، وبناء على ذلك كان يتعامل معها.
وبهذه الطريقة يمكن لكل رجل أن يستطلع من حال زوجته ما يساعده على التعامل معها بشكل مُرضٍ للطرفين.
______________________
1. رواه البخاري (5228)، ومسلم (2439).
هذا، وليست الخيرية للأهل نمطاً واحداً من أنماط التصرف، وإنما هي عاطفة – تنشأ من خليط الود والرحمة والحب – تستقر في النفس، لتظهر في مظاهر شتى، وأشكال متنوعة.
فهي في حقيقتها تعبير عما يكنه القلب، وتصطبغ به المشاعر.
ولبيان ذلك بمثال عملي من واقع الحياة، أضع بين الأيدي وأمام الأعين هذا الحديث النبوي الذي يسجل واحداً من تصرفاته ﷺ في هذا المقام، فهو الأسوة الحسنة، وهو المعلم الكريم.
أخرج الإمام مسلم:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَارِسِيًّا، كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ، فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ [طعاماً]، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ.
فَقَالَ (وَهَذِهِ؟) لِعَائِشَةَ. فَقَالَ: لَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَا).
فَعَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَهَذِهِ؟) قَالَ: لَا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَا).
ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَهَذِهِ؟) قَالَ: نَعَمْ فِي الثَّالِثَةِ فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ
(1).
أقول: والله إن لساني لعاجز عن التعليق على هذه الواقعة، وإن كل بيان هو دون شرح وبيان ما توحي به أو تترجم له، ولكنه الهدي النبوي الكريم، ينقله خادمه أنس ليضعه صورة ناطقة أمام السمع والبصر، فهي البيان الغني عن كل بيان، كيف لا، وهو القائل ﷺ:
(خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي).
______________________
1. رواه مسلم (2037)، ورواه النسائي (3436)، والدارمي (2067) كلاهما بلفظ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ جَارٌ فَارِسِيٌّ طَيِّبُ الْمَرَقَةِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ تَعَالَ وَأَوْمَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى عَائِشَةَ أَيْ وَهَذِهِ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ . . إلى آخر الحديث.