سبق الحديث عن الخطوط العامة عن سيرته ﷺ في بيته، ومن المعيشة، وحسن المعاملة، والعدل وغير ذلك. .
وفي هذا الفصل نتناول الأمور اليومية التي تكون عادة في البيوت، ونتعرف فيها على مسلكه ﷺ، وذلك في الفقرات التالية:
في مهنة أهله:
أخرج البخاري عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ (1).
إن قول عائشة رضي الله عنها: “كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ” يلخص معالم حياته ﷺ البيتية بكل أبعادها، ويترك للمخاطب أن يستكمل معالم هذه الصورة من خلال معرفته بالبيت ولوازمه.
وقد فسر هذه الكلمة شيخ البخاري آدم بن إياس بقوله: تعني خدمة أهله (2).
وسواء أكان تفسيرها: “في معاونة أهله فيما هم فيه” أو “خدمة أهله” فإن المعنى متقارب، وهو أنه لا يرى أهله في عمل ثم يجلس دون أن يشاركهم فيما هم فيه.
وقد وردت أحاديث أخرى تلقي الضوء على تفسير الحديث بضرب بعض الأمثلة من الواقع على هذه الخدمة:
______________________
1. رواه البخاري (676).
2. “فتح الباري” في تفسير الحديث المذكور.
قال عروة: سألت عائشة رضي الله عنها:
مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ (1)، قَالَتْ وَكَانَ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجلُ فِي بَيْتِهِ (2).
وفي رواية: قال: يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ الثَوب ويخيط (3).
وفي جواب آخر قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه (4).
وهناك روايات كثيرة في الموضوع نفسه.
ويبدو أن هذه الأسئلة تكررت من الصحابة والتابعين للسيدة عائشة وبقية أزواجه ﷺ، فالجميع يريدون معرفة ذلك.
وكانت هذه الإجابات يتمم بعضها بعضاً، إنها صور رفيعة وضيئة تنقل لنا كيف كان النبي ﷺ في بيته.
كان يقوم بخدمة نفسه بنفسه طالما هو قادر على ذلك، فلا يطلب من غيره فعل شيء وهو قادر على أ، يفعله بنفسه. وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي بايع مرة بعض أصحابه (على أن لا يسألوا الناس شيئاً) حتى قال راوي الحديث: “فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم – أي وهو على راحلته – فما يسأل أحداً يناوله إياه” (5).
كما كان يساعد أهله في عملهم الذي يعملونه، كما جاء في نص الحديث الشريف.
ولا شك أنه ﷺ – لو أراد – لوجد من يخبط أو يرقع له ثوبه، ولوجد من يحلب له شاته، ولوجد من يفعل له الأمور الأخرى.
______________________
1. يخصف نعله: يخرزها.
2. رواه البخاري في “الأدب المفرد” (539).
3. رواه البخاري في “الأدب المفرد” (540).
4. رواه البخاري في “الأدب المفرد” (541)، وهو في “المسند”. أنظر “الفتح الرباني” (22/ 24).
5. رواه مسلم (1043).
وهذا المسلك الكريم منه ﷺ في بيوته، يوضح أنه لم يكن يرى أن من واجب زوجاته الخدمة، بل ذلك شيء يتبرعن به من تلقاء أنفسهن.
إنه ﷺ بخدمته نفسه يؤكد – وقبل كل شيء – أن المرأة ليست خادمة، كما أنها ليست في معنى الخادمة (1).
______________________
1. ليس هذا الحكم استنتاجاً من فعله ﷺ وحسب، بل إن أقواله ﷺ لتؤكد ذلك، فقد وردت أحاديث كثيرة تبين حقوق الزوج على زوجته، لا نجد فيها أي إشارة إلى أن الخدمة واجبة على الزوجة.
وقد قرر هذا المعنى ثلاثة من أئمة المذاهب هم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، فقالوا بعدم وجوب خدمة المرأة لزوجها. [“فقه السنة”] لسيد سابق (2/ 184)، و “زاد المعاد” لابن القيم (5/ 188).
وذهبت طائفة أخرى من الفقهاء: إلى وجوب الخدمة في بيت الزوج، وبناء على العُرف السائد في المجتمع، وقد أيد الإمام ابن القيم هذا الاجتهاد، وذهب إليه، ومما احتج به: خدمة السيدة فاطمة في بيت علي رضي الله عنه.
وخدمة أسماء للزبير. فقد قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله.
وقرر أصحاب المذهب الأول: أن ذلك كان تبرعاً منهما، وهو منهما من باب التطوع ومكارم الأخلاق.
وإذا أدخلنا هذه المسألة في ميدان أصول الفقه، فكل ما فيها أن الرسول ﷺ أقر خدمة فاطمة وأسماء، ومعلوم أن إقراره ﷺ يفيد الجواظ ولا يفيد الوجوب، وهذا يعني: أنه يجوز للمرأة أن تخدم زوجها ولا يجب عليها.
والذي يجب أن نذكره مما استفدناه وفهمناه من سلوكه ﷺ بعيداً عن المناقشات الفقهية ما يلي:
1- ليست المرأة في بيتها خادمة، أو شبه خادمة.
2- وقد جرت العادة أن تفعل ذلك محبة وتطوعاً، وإذا كان الأمر كذلك فلا يحسن بالزوج أن يلقي العبء كله عليها، بل عليه أن يشارك في أعمال بيته كما كان رسول الله ﷺ يفعل.
3- إن عدم اتفاق الفقهاء على وجوب خدمة المرأة في بيت زوجها، وذهاب معظمهم إلى الرأي الأول الذي يقرر عدم والوجوب يفيدنا في أمر نفسي مهم ينبغي أن يستقر في خلد الزوج، وهو علمه بأن امرأته تقوم بهذه الخدمة متطوعة، وهذا بدوره يتطلب منه أمرين:
الأول: شكرها على ما تقوم به، والكلمة الطيبة دائماً صدقة.
الثاني: عدم التأفف أو الغضب إذا قصرت في يوم من الأيام لعذر ما، ذلك لأنها متبرع، والمتبرع لا يطالب عندما يقصر بما تبرع به.
وخلاصة القول: إن من أراد التأسي بالنبي الكريم في هذا الميدان فعليه أن يقوم بأمرين:
الأول: أن يخدم نفسه بنفسه كما كان النبي ﷺ يفعل ذلك.
الثاني: أن يكون في مهنة أهله، عندما يكون في بيته، كما كمان سيد البشر ﷺ يفعل.
رحمته ﷺ وحسن معاملته لأهله:
وصف الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ بقوله:
{بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
[التوبة: 128]
وهذه الرحمة والرأفة تشمل جميع المؤمنين بما فيهم أمهات المؤمنين. يضاف إلى ذلك بالنسبة إليهن الرحمة الأخرى والمودة التي جعلها الله تعالى بين الأزواج، والمنصوص عليها بقوله تعالى:
{وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ }
[الروم: 21].
وهكذا فأمهات المؤمنين كن يعشن معه ﷺ في ظلال رحمتين صادرتين عمن وصفه الله بأنه “رحيم”.
وما سبق الحديث عنه في الفقرة السابقة من كونه ﷺ “كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ” وهو من نتاج تلك الرحمة.
وفي هذه الفقرة ننقل بعض المشاهد عن رحمته محسن معاملته لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن:
قال ﷺ لعائشة رضي الله عنها مبيناً حسن معاملته لها بقوله:
(كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ) (1)
وقد سبق شرح الحديث وبيان معناه.
وهذا أنس رضي الله عنه، ينقل لنا صورته ﷺ وهو يساعد صفية على ركوب الراحلة فيقول: ثم يجلس ﷺ عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب (2).
______________________
1. رواه البخاري (5189)، ومسلم (2448).
2. رواه البخاري (2893).
وتصف عائشة رضي الله عنها ازدياد عطفه على من يصيبها المرض منهن فتقول وهي تتحدث عن قصة الإفك: ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله ﷺ اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي (1).
فقد كان لطفه كبيراً في حالة مرضها ولكنه هذه المرة كان مهموماً بأمر قصة الإفك، فكان هذا شاغلاً له عن ذلك.
وتأتي صَفِيَّة تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ، فتتحدث عنده ساعة، ثم تقوم لترجع إلى بيتها، فلا يمنعه من اعتكافه أن يخرج معها حتى يوصلها إلى منزلها. . ومر أثناء ذلك رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فقال لهما رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: (عَلَى رِسْلِكُمَا إنما هي صفية بنت حيي) فقالا: سبحان الله، يا رَسُولُ اللَّهِ، وكبر عليهما، فقال النبي ﷺ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنْ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا) (2).
إنه ﷺ لما كان الوقت عشاء أحب أن لا ترجع منفردة فقام معها..
وقد رأينا كيف كان اهتمامه ﷺ بها أكثر من نفسه عندما وقعا عن ظهر البعير عند دخول المدينة. .
ونختم هذه المواقف بهذه الحادثة التي رواها الإمام مسلم رحمه الله تعالى.
قالت عائشة رضي الله عنها: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي هُوَ عِنْدِي تَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ انْقَلَبَ فَوَضَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي قَدْ رَقَدْتُ.
وَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا ثُمَّ انْتَعَلَ رُوَيْدًا ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أجافه رُوَيْدًا (3).
______________________
1. رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
2. رواه البخاري (2035)، ومسلم (2175).
3. أجافه رويداً: أي أغلقه قليلاً قليلاً بلطف لئلا يوقظها.
وَجَعَلْتُ دِرْعِي (1) فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي (2) وَانْطَلَقْتُ فِي إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَطَالَ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ (3).
فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ.
فَقَالَ: (مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ حَشْيَا رَابِيَةً!) (4).
قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شيء.
قَالَ: (لَتُخْبِرِنِّي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ.
قَالَ: (فَأَنْتِ السَّوَادُ (5) الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟).
قَالَتْ: نَعَمْ.
فَلَهَزَنِي (6) فِي صَدْرِي لَهْزَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ: (أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟).
قُلْتُ: مَهْمَا يَكْتُمُ النَّاسُ فَقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ، نعم.
______________________
1. درع المرأة: قميصها.
2. أي: لبسته، والقناع في الأصل ما يوضع على الرأس.
3. أحضرت: الإحضار: العدو، وهو فوق الهرولة.
4. حشيا رابية: أي وقع عليك الحشا، وهو الربو، والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه، من ارتفاع النفس وتواتره.
5. السواد: أي لشخص.
6. لهدني: لهدة: أي دفعه.
قَالَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ فَنَادَانِي فَأَخْفَى مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ فَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْبَقِيعَ فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ) (1).
وكل تعلق على الحديث لن يؤدي الغرض، لأنه لن يؤدي المعاني حقها.
وبالجملة: فالحديث يبين مدى حرصه ﷺ على أن تكون عائشة بالوضع الذي يؤمن لها الراحة وعدم القلق.
فقد اتخذ كل الهدوء في لبسه وانتعاله وخروجه وإغلاقه الباب. . حتى لا يوقظها.
وخاف إن أيقظها وأعلمها بوجهته أن تستوحش..
لقد احتار ما ظنه الأفضل في تأمين راحتها. . فأي سلوك هذا!!
إن قلنا: هو اللطف. . فتلك صفة لا يدانيه فيها أحد.
وإن قلنا: هو الرحمة. . فهو القائل: (الراحمون يرحمهم الرحمن) (2).
وإن قلنا هو الحب. . فتلك عاطفة السمو الرفيعة.
تلك نماذج تبين جانباً من حسن معاملته ﷺ لأمهات المؤمنين، مع ما يصاحب ذلك في الحنو والعطف والحب.
وقد سئلت عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله ﷺ إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس بساماً. . (3).
______________________
1. رواه مسلم (974).
2. رواه أبو داود (4941)، والترمذي (1924).
3. “المواهب اللدنية” (2/ 341) قال: رواه ابن سعد وغيره.
وعائشة رضي الله عنها لا تفشي سراً بقولها هذا، فقد شاع ذلك بين الصحابة رضي الله عنهم، حتى رأينا جابر بن عبدالله رضي الله عنه، وهو يتحدث عن عمرة عائشة بعد الحج، يعلق على ذلك بقوله: وكان رسول الله ﷺ رجلاً سهلاً إذا هويت الشيء تابعها عليه (1).
على أن هذا اللين وتلك السهولة ليس على إطلاقهما، بل هما مقيدان بدائرة “المباح” فإذا خرج الأمر عن ذلك فإنا نجد منه ﷺ موقفاً آخر.
فقد دخل رسول الله ﷺ على عائشة، بعد قدومه من سفر فرآها وقد سترت سهوة (2) لها بقرام (3) فيه صور، فتلون وجهه ﷺ، ثم تناول الستر فهتكه ثم قال:
(قاَلَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ) (4).
وهكذا لا نجد هنا اللين الذي تحدثنا عنه، ولم يكتفِ ﷺ بأمر عائشة بأن ترفعه، بل هتكه بيده.
الغضب أحياناً:
ومع كل هذا اللين والعطف، فإن بعض المشكلات لا بد أن تكون في البيت بين المرأة وزوجها.
وبيوت الرسول ﷺ كان يحدث فيها هذا، كغيرها من البيوت، فنساؤه ﷺ بشر من البشر، ونساء من النساء، وهو ﷺ من البشر – كما قال عن نفسه – يغضب ويرضى.
وهذا ميدان آخر يظهر فيه حسن معاملته. . كما هو شأنه في كل ميدان.
______________________
1. رواه مسلم (1213).
2. سهوة: الخزانة الصغيرة تكون في الجدار.
3. قرام: هو الستر الرقيق.
4. رواه البخاري (5954، 6109)، مسلم (2107).
ولنترك الحديث لعمر رضي الله عنه يحدثنا عنه عندما اكتشفه لأول مرة.
قَالَ عُمر رضي الله عنه: “إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَأْتَمِرُهُ إِذْ قَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: وَمَا لَكِ أَنْتِ وَلِمَا هَاهُنَا وَمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟
فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ؟ وَإِنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ!
قَالَ عُمَرُ فَآخُذُ رِدَائِي ثُمَّ أَخْرُجُ مَكَانِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟
فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ.
فَقُلْتُ تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ وَغَضَبَ رَسُولِهِ.
قال عمر: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا.
فَقَالَتْ لِي أُمُّ سَلَمَةَ عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَزْوَاجِهِ.
قَالَ عمر: فَأَخَذَتْنِي أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ . . ثم أتيت رسول الله ﷺ فَقَصَصْتُ عَليه هَذَا الحديث، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ” (1).
لم تكن المرأة – في نظر القوم – تستشار في أمر، بل ينكر عليها ان تبدي رأيها، فضلاً عن أن تكون لها وجهة نظر تدافع عنها، أو تراجع الرجل بشأنها.
______________________
1. رواه البخاري (4913).
تلك هي الصورة التي تأخذ أبعادها في ذهن القارئ، وهو يمعن النظر في قول عمر رضي الله عنه.
ولكن الأمر في بيوت رسول الله ﷺ على غير هذا، فهو يستمع لزوجاته، ويسمعن منه، وقد تنفق وجهات النظر، وقد تختلف، وقد يغضب من إحداهن يوماً، وقد تغضب إحداهن منه يوماً، وهكذا فهي الحياة في واقعها الصحيح، فللمرأة رأيها، وهي أهل لأن تناقش وتدلي بدلوها، وبخاصة فيما يكون في دائرتها من شؤون بيتها.
وقد يكثر هذا الاختلاف والغضب الرضى، كما حصل من عائشة، وحتى استطاع النبي ﷺ بالاستقراء والتكرار أن يعرف علامات ذلك حتى قال لها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى) ويبين لها علامات ذلك مما استنتجته من تكرر غضبها. وقد سبق الحديث عن ذلك. .
وهكذا تغضب عائشة وترضى.
وتغضب حفصة. . كما صرحت لأبيها.
وكذلك بقية أزواجه كن يفعلن.
وكذلك يغضب رسول الله ﷺ أحيانا. .
فها هي صفية تبرم صفقة مع عائشة في سبيل إرضاء النبي ﷺ. .
قالت عائشة: وجد النبي ﷺ على صفية في شيء، فقالت صفية: يا عائشة أرض عني رسول الله صل الله عليه وسلم ولك يومي.
قالت عائشة: نعم. . وأخذت خماراً لها مصبوغاً بزعفران، فرشته بالماء ليفوح ريحه. . وقعدت إلى جنب رسول الله ﷺ.
فقال ﷺ: (إليك عني يا عائشة، إنه ليس يومك).
قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. . وأخبرته الخبر. . ورضي ﷺ عن صفية (1).
وأخرج الإمام أحمد من حديث صفية: أن رسول الله ﷺ حج بنسائه. . فلما كانوا في الطريق برك جمل صفية بنت حيي، فقال رسول الله ﷺ لزينب بنت جحش: (يا زينب، أفقري (2) أختك صفية جملاً) وكانت من أكثرهن ظهراً، فقالت: أنا أفقر يهوديتك؟ فغضب النبي ﷺ حين سمع ذلك منها فهجرها فلم يكلمها حتى قدم المدينة، ومضى المحرم وصفر فلم يأتها، ولم يقسم لها، ويئست منه، فلما كان شهر ربيع الأول، دخل عليها (3).
ولعل هذا كان عقوبة لها على اتهامها صفية ووصفها باليهودية بعد أن أصبحت مسلمة.
وقد ترتفع أصوات أمهات المؤمنين عند اجتماعهن، إذ كن يجتمعن كل ليلة عند التي يكون مبيت النبي ﷺ عندها، فإذا جاء وقت النوم انصرفن إلى حجرهن، وقد تحصل بعض المشادات بينهن خلال ذلك.
ومن ذلك ما رواه أنس رضي الله عنه إذ قال: كان للنبي ﷺ تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب، فمد يده إليها، فقالت: هذه زينب، فكف النبي ﷺ يده، فتقاولتا حتى استخبتا (4)، وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر على ذلك، فسمع أصواتهما، فقال: أخرج، يا رسول الله إلى الصلاة، واحث في أفواههن التراب. فخرج النبي ﷺ فقالت عائشة:
______________________
1. رواه الإمام أحمد “الفتح الرباني” للبنا (22/ 112).
2. أقفري: أفقر البعير: أي أعاره للركوب.
3. رواه الإمام أحمد “الفتح الرباني” للبنا (22/ 143 – 144).
4. استخبتا: من السخب، وهو اخنلاط الأصوات وارتفاعها.
فقالت: عائشة: الآن يقضي النبي ﷺ صلاته، فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل. فلما قضى النبي ﷺ صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولاً شديداً، وقال: أتصنعين هذا (1)؟
وإذا كان ارتفاع الأصوات في هذه المرة بين عائشة وزينب، فقد يرتفع صوت إحداهن بعض الأحيان على النبي ﷺ.
فقد استأذن أبو بكر على النبي ﷺ، فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناول ليلطمها، وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله ﷺ؟! فجعل النبي ﷺ يحجزه، وخرج أبو بكر مغضباً، فقال النبي ﷺ حين خرج أبو بكر: (كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟).
فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن على رسول الله ﷺ فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي ﷺ: (قد فعلنا، قد فعلنا) (2).
تلك صور تفتح الأعين على كريم أخلاقه ﷺ وحسن معاشرته أزواجه في الرضا الغضب، وكيف كان بواسع صدره الكريم يسعهن على كل أحوالهن بما في ذلك تحايلهن عليه بدافع الغيرة، ونذكر مثالاً لذلك.
قالت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ الْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ فَسَقَتْ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي له: يا رسول الله أَكَلْتَ مَغَافِيرَ (3)؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ لَا فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وكان رسول الله ﷺ يشتد عليه أن توجد منه الريح – فَإِنَّهُ سَيَقُولُ:
______________________
1. رواه مسلم (1462).
2. رواه أبو داود (4999)، وكذلك الإمام أحمد.
3. صمغ حلو له رائحة كريهة.
سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْافُطَ (1)، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ وَقُولِي أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ. فَلَمَا دَخَل عَلَى سَوْدَةُ – تَقُولُ سَوْدَةُ: والذي لا إله إلا هو، لقد كدت أَنْ أُبَادِيَهُ بالذي قلت لي وإنه على الباب، فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: (لَا) قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: (سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ) فَقَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ.
تقول عائشة: ولما دخل علي قلت له مثل ذلك.
ودخل عَلَى صَفِيَّةَ، قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ له: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: (لَا حَاجَةَ لِي بِهِ).
قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سبحان الله، لَقَدْ حَرَمْنَاهُ.
قَالَتْ” قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِ (2).
وإذا كانت عائشة تقص علينا أخبار انتصاراتها، فهي أيضاً تعترف بفشلها بعض الأحيان فتقول:
كان النبي ﷺ إذا خرج في سفر أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان ﷺ إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث.
فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت.
فجاء النبي ﷺ إلى جمل عائشة – وعليه حفصة – فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة. فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يا رب سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، ولا أستطيع أن أقول شيئاً (3).
______________________
1. جرست نحله العرفط: أي رعت حل هذا العسل العرفط، والعرفط: شجر ينتج الصمغ المسمى بالمغافير، ذو الرائحة الكريهة.
2. رواه البخاري (6973)، ومسلم (1474).
3. رواه البخاري (5211)، ومسلم (2445).
ومن المواقف التي أغضبت النبي ﷺ ما ذكره الإمام أحمد في “مسنده” عن عائشة رضي الله عنها.
قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ بِأَسِيرٍ فَلَهَوْتُ عَنْهُ فَذَهَبَ (1). .
فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: (مَا فَعَلَ الْأَسِيرُ؟).
قَالَتْ: لَهَوْتُ عَنْهُ مَعَ النِّسْوَةِ فَخَرَجَ.
فَقَالَ: (مَا لَكِ!! قَطَعَ اللَّهُ يَدَكِ) فَخَرَجَ فَآذَنَ بِهِ النَّاسَ فَطَلَبُوهُ فَجَاءُوا بِهِ.
قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ وَأَنَا أُقَلِّبُ يَدَيَّ فَقَالَ: (مَا لَكِ؟ أَجُنِنْتِ؟) قُلْتُ: دَعَوْتَ عَلَيَّ فَأَنَا أَنْظُرُ أَيُّهُمَا يُقْطَعَانِ.
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَوْ مُؤْمِنَةٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَطُهُورًا) (2).
ويلاحظ القارئ لهذا الحديث:
– أنه ﷺ عندما غضب، لم يعاقب لم يضرب. . ولم يكن منه إلا هذه الكلمة التي دفع بها الغضب.
– أنه عاد إلى البيت ثانية وقد ذهب عنه الغضب، وعادت نفسه إلى صفائها، وكأنه نسي الحادثة، ولم يتذكرها إلا عندما رأى عائشة وهي تقلب يديها. . لم يعنف ولم يطل الحديث والتعليق على تقصيرها. . وانتهى الموضوع كله في الوقف الأول.
وبهذا المسلك الكريم يبين ﷺ كيف ينبغي حصر دائرة الغضب في وقت محدود والتخلص من آثاره بقصره على وقت الحدث وعدم العودة إليه عتاباً وملامة. .
إنه ﷺ صاحب الخلق الكريم.
______________________
1. هذه الحادثة كانت – والله أعلم – قبل فرض الحجاب.
2. “المسند” برقم (24259) طبعة مؤسسة الرسالة. قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: صحيح على شرط الشيخين.
تلك بعض الوقائع التي تسجل جانباً من حياة أمهات المؤمنين. . وفيها الرضا. . والغضب. . والغيرة. . تسجلها السنة المطهرة، ليعلم الناس كيف كانت حياته ﷺ مع زوجاته، ومدى صبره عليهن، مع ما هو فيه من إدارة شؤون المسلمين، وقيادة المعارك، وتبليغ الدعوة.
لكل بيت استقلاله:
هذا وقد كان لكل بيت من بيوت رسول الله ﷺ استقلاله عن بقية البيوت. فقد كان ﷺ يسوي بالنفقة بين زوجاته، وتبقى لكل منهن خصوصيتها في بيتها.
وقد رأينا كيف أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلب من ابنته حفصة أن تسأله ما تريد من مال أو متاع، ولا تثقل بطلباتها عليه ﷺ.
ومن هذا يفهم أنه كان لبعضهن بعض الموارد التي تصلهن من أهلهن أو أقربائهن أو معارفهن.
ومما يدل على هذه الاستقلالية: أن الهدايا التي كانت تصل إلى بيت من بيوته ﷺ ما كان يأمر صاحبة ذلك البيت أن تقسمها بين بقية البيوت.
فهذه حفصة تصلها هدية من عسل وتسقي منها رسول الله ﷺ.
وهذه زينب بنت جحش كذلك نصلها هدية من عسل وتسقي رسول الله ﷺ منها.
وهذه ميمونة تهدي لها أختها حفيدة بنت الحارث أقطاً وسمناً وأضباً. . فيأكل النبي من الأقط والسمن ويترك الضب.
والهدايا التي كانت تصل إلى عائشة كثيرة، وكانت سباً لمشكلة سبق الحديث عنها.
وهذه أم سلمة تبني جدار حجرتها باللبن – بعد أن كان من سعف النخيل – أثناء غيابه ﷺ في إحدى الغزوات.
وهذه زينب ترفض مساعدة صفية في إفقارها بعيراً. . كما رأينا. . وهذا يعني أنه تملك خاص بها، ولم يكن لرسول الله ﷺ، وإلا لما كان بحاجة إلى استئذانها. .
وهذه عائشة رضي الله عنها تقول:
دخل علي سائل مرة، وعندي رسول الله ﷺ فأمرت له بشيء، ثم دعوت به فنظرت إليه، فقال رسول الله ﷺ: (أما تريدين أن لا يدخل بيتك بشيء ولا يخرج إلا بعلمك؟) قالت: نعم، قال: (مهلاً يا عائشة، لَا تُحْصِي فَيُحْصَى الله عز وجل عَلَيْكِ) (1).
وهو ﷺ لم ينكر عليها معرفتها كل ما يجري في بيتها، وإنما وجهها إلى عدم إحصاء ما تنفق في سبيل الله تعالى.
ومما يؤكد استقلالية هذه البيوت، ما رأينا من أمر النبي ﷺ يوم غارت عائشة من الطعام الذي بعثت به أم سلمة. . فكسرت الصحفة، فقال ﷺ (وعاء بوعاء. .).
وخلاصة القول: أنه ﷺ كان يعدل بين بيوته في النفقة والقسم. . ولكن هذا لا يمنع أن يكون لكل بيت استقلاله. . كما رأينا. . إذ لكل زوجة علاقاتها الاجتماعية بالأهل والأقارب وعلاقاتها المادية، فقد تكون صاحبة أموال. . وذات غنى.
المباسطة. . والمزاح:
قال حنظلة الأُسيدي: يَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) (2).
______________________
1. رواه النسائي (2548).
2. رواه مسلم (2750).
ولقد كان لهذه الساعة مكانها في بيوته ﷺ. فاللهو والمرح والمزاح أمر ضروري في الحياة، شأنه شأن الملح للطعام، القليل منه يؤدي الغرض، فإذا كثر أفسد الطعام.
ولنذكر بعض ما كان من ذلك بينه ﷺ وبين زوجاته. .
قالت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ قَالَتْ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) (1).
وقوله: (هَذِهِ بِتِلْكَ) إنما هو من باب تطييب خاطرها حين سبقها.
وقالت مرة: وارأساه.
فقال رسول الله ﷺ: (ذاك لو كان وأنا حي، فأستغفر لك، وأدعو لك).
فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرساً ببعض أزواجك. . (2).
وقالت رضي الله عنها: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَدِيثًا فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ الْحَدِيثُ حَدِيثَ خُرَافَةَ.
فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا خُرَافَةُ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلًا مِنْ عُذْرَةَ أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَمَكَثَ فِيهِنَّ دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الْإِنْسِ فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنْ الْأَعَاجِيبِ فَقَالَ النَّاسُ حَدِيثُ خُرَافَةَ) (3).
______________________
1. رواه أبو داود (2568) ولفظ الإمام أحمد: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلْ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ فَقَالَ لِلنَّاسِ: تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي: (تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ) فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَقَالَ لِلنَّاسِ (تَقَدَّمُوا) فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ (تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ) فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: (هَذِهِ بِتِلْكَ) (26277).
2. رواه البخاري (5666).
3. رواه الإمام أحمد، “الفتح الرباني” للبنا (19/ 205) وقال: سنده جيد.
ومحل الشاهد اجتماعه بهن وحديثه إليهن.
ويبدو إن إحداهن لم تستوعب الحديث أو كان أمراً غريباً، فقالت بلغة فيها الكثير من الأدب: “كان الحديث حَدِيثُ خُرَافَةَ” أي شيء لا يصدق.
ولم يغضب ذلك رسول الله ﷺ لما فيه – بشكل غير مباشر – من عدم تصديقها له، بل شرح لهم أن خرافة كان اسماً لرجل وأن ما كان يقوله كان حقيقة واقعاً (1).
قالت عائشة رضي الله عنها: أهدي لرسول الله ﷺ قلادة من جزع ملمعة بالذهب، ونساؤه مجتمعات في بيت كلهن، وأمامة بنت أبي العاص بن الربيع جارية تلعب في جانب البيت بالتراب.
فقال رسول الله ﷺ: (كيف ترين هذه؟).
فنظرنا إليها فقلنا: يا رسول الله، ما رأينا أحسن من هذه قط ولا أعجب.
فقال: (ارددنها إلي) فلما أخذها قال: (والله، لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي).
قالت عائشة: فأظلمت علي الأرض بيني وبينه، خشية ان يضعها في رقبة غيري منهن، ولا أراهن إلا أصابهن مثل الذي أصابني، ووجمنا جميعاً سكوت.
فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص.
______________________
1. ومثل هذا ما رواه أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ)، فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ فَقَالَ: (فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) وَمَا هُمَا ثَمَّ [رواه البخاري: 3471].
وهكذا استغرب الصحابة ما لم تجر العادة به، كما استغربت المتكلمة كلامه ﷺ. . لأنه كان من هذا النوع.
قالت عائشة: فسري عنا (1).
وما كان ﷺ ليضعها في رقبة إحداهن، لأن ذلك مخالف لمسلك العدل الذي عرف منه، ولأنه لم يكن ليجرح شعور الجميع لتفرح واحدة، وإنما كان ذلك منه في دائرة المزاح، الذي جعلهنَّ في الوضع الذي وصفته عائشة ثم سري عن الجميع.
وَقَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ.
وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟!
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (دَعْهُمَا).
فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.
وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَإِمَّا قَالَ (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟) فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَيَقُولُ دُونَكُمْ بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاذْهَبِي) (2).
وقالت رضي الله عنها: أتيت النبي ﷺ بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة – والنبي ﷺ بيني وبينها-: كلي، فأبت. فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطخن بها وجهك. فأبت.
فوضعت يدي في الخريزة، فلطخت بها وجهها.
فضحك النبي ﷺ فوضع فخذه لها، وقال: (الطخي وجهها).
فلطخت وجهي، فضحك ﷺ (2).
_____________________
1. “مجمع الزوائد” (9/ 254) وقال: رواه الطبراني واللفظ له، وأحمد باختصار وأبو يعلى. وإسناد أحمد وأبي يعلى حسن.
2. رواه البخاري (949، 950)، ومسلم (892).
3. “المواهب اللدنية” للقسطلاني (2/ 349).
تلك نماذج من مباسطته ومزاحه في بيوت زوجاته، تبين سماحته وخلقه العظيم الذي وصفه الله تعالى به.
منهج للبشر:
من خلال ما سبق، تبرز حقيقة واضحة ناصعة، ينبغي ألا تغيب عن الفكر، وهي أن زوجاته ﷺ كن يتعاملن معه من خلال بشريته ﷺ لا من خلال نبوته، فتارة يحتالون له، وتارة يحتالون عليه، وتارة يغاضبنه أو تغاضبه إحداهن، وتارة يجد على الواحدة منهن. .
وهو بسلوكه معهن يرسم لنا الصورة البشرية كاملة، لتكون معلماً للأزواج في تعاملهم مع أزواجهم.
ومن تمام هذه الصورة اهتمامه ﷺ بأمر أزواجه بعد موته، كما هو مسلك كل إنسان يترك بعد موته من هو بحاجة إلى الرعاية والعطف.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ:
(إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلَّا الصَّابِرُونَ) (1).
وفي رواية أخرى للإمام أحمد: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَحْنَى عَلَيَّ فَقَالَ: (إِنَّكُنَّ لَأَهَمُّ مَا أَتْرُكُ إِلَى وَرَاءِ ظَهْرِي وَاللَّهِ لَا يَعْطِفُ عَلَيْكُنَّ إِلَّا الصَّابِرُونَ أَوْ الصَّادِقُونَ) (2).
وهكذا نجده ﷺ يرسم لنا الصورة كاملة واضحة، من خلال الواقع الذي يحسه كل إنسان.
كان همه قائماً بمن يخلف وراءه. .
______________________
1. رواه الترمذي (3749)، والإمام أحمد “الفتح الرباني” للبنا (22/ 151).
2. رواه الإمام أحمد “الفتح الرباني” (22/ 152).
وتحدثت عائشة بهذا الحديث إلى أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، ثم قالت: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة – تريد عبدالرحمن بن عوف – وكان وصل أزواج النبي ﷺ بمال بيعت بأربعين ألفاً (1).
وهكذا كان عبدالرحمن واحداً ممن ذهب بدعوة عائشة رضي الله عنها، وبوصف الصابرين والصادقين الذي ذكره رسول الله ﷺ.
لقد كان ﷺ يسن للناس، يسن للإنسان، بكل ما في الإنسان من عواطف واهتمامات.
وكان نساؤه كذلك، لهن اهتمامات النساء، فكانت صورة التعامل الإنساني الواقعي قائمة بكل أبعادها، ضمن إطار الشرع الذي كان يبينه صلى الله عليه ولم بقوله وفعله. ولنضرب بعض الأمثلة من حياتهن رضي الله عنهن.
كانت عائشة تستعير الحلي لتتزين به، كما هو شأن كل امرأة، ومن المعروف أن سبب قصة “الإفك” أنها استعارت عقداً من أختها ففقدته أثناء قضاء حاجتها فرجعت في التماسه.
وكان عقد آخر لعائشة فقدته أيضاً في إحدى الغزوات، حتى حبس الرسول ﷺ الناس على التماسه. وقالت عائشة: لقيت من أبي بكر ما شاء الله وقال لي: يا بنية، في كل سفر تكونين عناء وبلاء، ولس مع الناس ماء، فأنزل الله رخصة التيمم. . وعندما قام البعير وجد العقد تحته (2).
ومحل الشاهد: أن عائشة كانت حريصة على الزينة في السفر، وحتى لو كانت هذه الزينة على سبيل الاستعارة.
______________________
1. رواه الترمذي (3749)، والمقصود بالمال: حديقة بيعت بالمبلغ المذكور، كما جاء إيضاح ذلك في حديث الترمذي (3750).
2. “سيرة خير العباد” لابن القيم، نشره المكتب الإسلامي (ص 181 – 182
وفي بعض العمليات التجميلية كان نساء النبي ﷺ يأخذن من شعر رؤوسهن كما جاء ذلك في “صحيح مسلم” حيث قال: “وكان أزواج النبي ﷺ يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة (1)” (2).
وهكذا كان شأنهن شأن بقية النساء.
وفي شأن الثياب روى البخاري
عَنْ أَيْمَنَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَلَيْهَا دِرْعُ قِطْرٍ ثَمَنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَقَالَتْ ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى جَارِيَتِي انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا تُزْهَى أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ لِي مِنْهُنَّ دِرْعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ تُقَيَّنُ (3) بِالْمَدِينَةِ إِلَّا أَرْسَلَتْ إِلَيَّ تَسْتَعِيرُهُ (4).
وفي الحديث معان كثيرة، ومحل الشاهد فيه أن عائشة رضي الله عنها كان لها ثوب من زمنه ﷺ تستعيره كل عروس عندما تزف لزوجها، مما يدل على نفاسته في زمنه.
ومن هذه الأمثلة وغيرها نتبين أنهن رضي الله عنهن كن كبقية النساء، لهن كل رغباتهن. . في اللباس والزينة والهندام. .
_____________________
1. الوفرة: الشعر إذا كان إلى الأذنين.
2. رواه مسلم (320).
3. تقين: أي تجلى على زوجها.
4. رواه البخاري (2628).