1- تبرؤ النبي ﷺ من نسبة القرآن إليه، هو إقرار وليس إدعاء:
“تبرؤ النبي ﷺ من نسبة القرآن إليه، ليس ادعاء يحتاج بينة، بل هو إقرار يؤخذ به صاحبه:
في الحقيقة إن هذه القضية لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس (الدعاوي) فتحتاج إلى بينة، وإنما هي من نوع (الإقرار) الذي يؤخذ به صاحبه، ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه، أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة، ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد ذلك الزعامة، نقول: أي مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخاً على حين أنه كان يستطيع أن ينتحلها فيزداد بها رفعة وفخامة شأن، ولو انتحلها لما وجد من البشر أحداً يعارضه ويرغمها لنفسه؟
الذي نعرفه أن كثيراً من الأدباء يسطون على آثار غيرهم، فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله وغلت قيمته وأمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى، ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأبواب المستعارة؛ أما أن أحداً ينسب لغيره أنفس آثار عقله، وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم يلده الدهر بعد” (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1. النبأ العظيم، للدكتور عبد الله دراز (ص 16).
2- موقف النبي ﷺ من النص القرآني:
موقف الرسول ﷺ من النصر القرآني موقف المفسر الذي يتلمس الدلالات، ويأخذ بأرفق احتمالاتها:
“وأنت لو نظرت في هذه الأمور التي وقع العتاب عليها، لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه ﷺ كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثماً، اختار أقربهما إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحاً، أو جاوزه خطأ ونسياناً، بل كل ذنبه أنه مجتهد بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيراً فتخير. هبة مجتهداً أخطأ باختيار خلاف الأفضل، أليس معذوراً ومأجوراً؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية، هل ترى في ذلك ذنباً يستوجب عن العقل هذا التأنيب والتثريب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟
توفي عبد الله بن أُبي كبير المنافقين، فكفنه النبي ﷺ في ثوبه وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر رضي الله عنه: أتصلي علىه وقد نهاك ربك؟ فقال ﷺ: “إنما خبرني ربي فقال:
{ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً }
[التوبة: 80]
وسأزيده على السبعين”، وصلى عليه، فأنزل الله تعالى:
{ وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰٓ أَحَدٍۢ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِۦٓ}
[التوبة: 84]
فترك الصلاة عليهم” (1) ؛ اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين، وانظر ماذا ترى؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: قوله {ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، رقم (4393)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر، رقم (2400)).
إنها لتمثل لك نفس هذا العبد الخاضع، وقد اتخذ من القرآن دستوراً، يستملي أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص الأول تخييراً له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة، ولم يلجأ إلى الطريق الآخر إلا بعدما جاءه النص الصريح بالمنع. وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو غيرها، تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة، ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة؛ وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث والأغراض، بل تصدع بالبيان فرقاناً بين الحق والباطل، وميزاناً للخبيث والطيب، أحب الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود، وعابد ومعبود” (1).
3- مواقف تحفزه للقول على الله ولكن لا يفعل:
“في بعض المواقف تكون حاجة النبي ﷺ إلى القرآن شديدة، بل لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم، بحث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالاً ومجالاً، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام، ولا يجد في شأنها قرآناً يقرؤه على الناس؛ ومع هذا لم يتقوله ولم ينزل عليه شيء” (2) ، مما يدلك على صدقه؛ إذا الكاذب لا يتأخر في افتراء الكذب عند الحاجة الماسة إليه، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم (ص 28-30).
(2) آراء المستشرقين، لرضوان (1/388).
أ- عن عباس رضي الله عنهما قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط على أخبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهما صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ﷺ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور. فأخبروهم بها فجاؤوا رسول الله ﷺ، فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله ﷺ: “أخبركم غداً عما سألتم عنه” ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله ﷺ مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ} [الإسراء: 85] (1).
ب- فترة الوحي في حادث الإفك (2):
“ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون”، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: “إني لا أعلم عنها إلا خيراً” ثم إنه بعد بذل جهده في التحري والسؤال واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله، والكل يقولون ما عملنا عليها من سؤء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: “يا عائشة أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله”.
هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المثبت الذي لا يظن ولا يقول ما ليس له به علم، على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلناً براءتها، ومصدراً الحكم المبرم بشرفها وطهارتها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال السيوطي في الدر المنثور (5/ 357): أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل.
(2) متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها: (البخاري: كتاب الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهن بعضاً، رقم (2518)، ومسلم: كتاب التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، رقم (2770)).
فماذا كان يمنعه – لو أن أمر القرآن إليه – أن يتقول هذه الكلمات الحاسمة من قبل؛ ليحمي بها عرضه، ويذب بها عن عرينه، وينسبها إلى الوحي السماوي، لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله:
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَٰجِزِينَ}
[الحاقة: 44- 47] (1).
ج- لقد كان النبي ﷺ يتحرق شوقاً إلى تحويل القبلة إلى الكعبة، وظل يقلب وجهه في السماء ستة عشر شهراً أو سبعة شهرا، لعل الوحي ينزل عليه بتحويل القبلة إلى البيت الحرام، ولكن الله تعالى لم ينزل في هذا التحويل قرآناً، على الرغم من تلهف رسول الكريم ﷺ إليه إلا بعد قرابة عام ونصف العام (2).
عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] فتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ. . . .
(3)
4- توقف النبي في فهم مغزى النص القرآني:
“لقد كان يجيئه الأمر أحياناً بالقول المجمل، أو الأمر المشكل الذي لا يستبين هو ولا أصحابه تأويله، حتى ينزل الله عليهم بيانه بعد. قل لي بربك: أي عاقل توحي إليه نفسه كلاماً لا يفهم هو معناه، وتأمره أمراً لا يعقل هو حكمته؟
أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟ وإليك بعض هذه الأمثلة:
وإليك بعض هذه الأمثلة:
المثال الأول: موقفه في قضية المحاسبة على النبات:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم (ص 20).
(2) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص56).
(3) متفق عليه (البخاري: كتاب الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان، رقم (399)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، رقم (525)).
نزل قوله تعالى:
{لِّلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ}
[البقرة: 284]
فأزعجت الصحابة إزعاجاً شديداً، و دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء آخر؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون على كل شيء حتى حركات القلوب وخطورتها؛ فقالوا: يا رسول الله! أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها، فقال لهم النبي ﷺ: “أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير”، فجعلوا يتضرعون بهذه الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله:
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ}
[البقرة” 286]
إلى آخر السورة المذكورة (1)، وهنالك علموا أنهم إنما يحاسبون على ما يطيقون من شأن القلوب، وهو ما كان من النيات المكسوبة والعزائم المستقرة، لا من الخواطر والأماني الجارية على النفس بغير اختيار. وموضع الشاهد منه أن النبي ﷺ لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم لهذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رؤوف رحيم، ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها، ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان، ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى:
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُۥ}
[القيامة: 19].
المثال الثاني: مسلكه في قضية الحديبية:
إقرأ في صحيح البخاري (2) وغيره قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى:
{وَقَٰتِلُوا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}
[البقرة: 190]
فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام وهو العام السادس من الهجرة أخذوا أسلحتهم حذراً أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع، ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشاً قد جمعت جموعها على مقربة منهم، فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة، بل زادهم ذلك استبسالاً وصمموا على المضي إلى البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه. وأنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي ﷺ وأخذ أصحابها يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء – أي: حزنت الناقة – فقال النبي ﷺ: “ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل” يعني: أن الله الذي اعتقل الفيل ومع أصحابه من دخول مكة محاربين، هو الذي اعتقل هذه الناقة ومنع جيش المسلمين من دخولها الآن عنوة. وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى. فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه – سبحانه – لا يكلف إلا الوسع، رقم (125).
(2) أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم (2583).
امتثالاً لهذه الإشارة الإلهية، التي لا يعلم حكمتها، وأخذ يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلاً، “والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها” ولكن قريشاً أبت أن يدخلها في هذا العام لا محارباً ولا مسالماً، وأملت عليه شروطاً قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يجيئه من مكة مسالماً، وألا ترد هي أحداً يجيئها من المدينة تاركاً لدينه، فقبل تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في شعفها على مثل المؤمنين في قوتهم، وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاؤوا. فلا تسل عما كان لهذا الصلح من الوقع السيئ في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضاً ذهولاً وغماً، وكادت تزيغ قلوب فريق من كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين: لم نعطي الدنية من ديننا؟ أفلم يكن من الطبيعي إذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أو وقف على أسرارها أن يبين لكبار الصحابة حكمة هذه التصرفات التي فوق العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين راجعه عمر: “إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري” يقول: إنما أنا عبد مأمور ليس لي من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقاً بنصره قريباً أو بعيداً، وهكذا ساروا راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح، فبينت لهم الحكم الباهرة والبشارات الصادقة فإذا الذي ظنوه ضيماً وإجحافاً في بادئ الرأي كان هو النصر المبين والفتح الأكبر وأين تدبير البشر من تدبير القدر؛
{وَهُوَ ٱلَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنۢ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْىَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُۥ ۚ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَٰتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَـُٔوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌۢ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۖ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِى رَحْمَتِهِۦ مَن يَشَآءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوٓا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}
[الفتح: 24-127] (1)
5- منهجه في تلقي النص أو عهده بالوحي (2):
“ولقد كان حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلاً، فيحرك به لسانه وشفتيه طلباً لحفظه، وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفاً من عادته في تحضير كلامه، لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، إنما كانوا يزورون كلامهم في أنفسهم، فلو كان القرآن منبجساً من معين نفسه لجرى على سنة كلامه وكلامهم ولكان له من الروية والأناة الصامتة ما يكفل له حاجته؛ من إنضاج الرأي، وتمحيص الفكرة، ولكنه كان يرى نفسه أمام تعليم يفاجئه وقتياً ويلم به سريعاً، بحيث لا تجدي الرؤية شيئاً في اجتنابه لو طلب، ولا في تداركه واستذكاره لو ضاع منه شيء، وكان عليه أن يعيد كل ما يلقى إليه حرفياً، فكان لابد له في أول عهده بتلك الحال الجديدة التي لم يألفها من نفسه أن يكون شديد الحرص على المتابعة الحرفية، حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِۦ}
[القيامة: 16]
وقوله
{وَلَا تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰٓ إِلَيْكَ وَحْيُهُۥ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا}
[طه: 114].
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم (ص30-34)
(2) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص 52)
هذا طرف من سيرته بإزاء القرآن، وهي شواهد ناطقة بصدقة في أن القرآن لم يصدر عنه بل ورد إليه، وأنه لم يفض عن قلبه بل أفيض عليه” (1).
6- عجزه البشري عن الإتيان بمثل هذا القرآن:
أليس يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال أن يقوم من الطبيعة شاهد بعجزه المادي عن إنتاج ذلك العمل؟
فلينظر العاقل: هل كان هذا النبي الأمي ﷺ أهلاً بمقتضى وسائله العلمية لأن تجيش نفسه بتلك المعاني القرآنية؟
سيقول الجهلاء من الملحدين: نعم. فقد كان له من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة ما يؤهله لإدراك الحق والباطل من الآراء، والحسن القبيح من الأخلاق، والخير والشر من الأفعال، حتى لو أن شيئاً في السماء تناله الفراسة، أو تلهمه الفطرة، أو توحي به الفكرة، لتناوله محمد بفطرته السليمة وعقله الكامل وتأملاته الصادقة.
ونحن قد نؤمن بأكثر مما وصفوا من شمائله، ولكننا نسأل: هل كل ما في القرآن مما يستنبطه العقل والتفكير، ومما يدركه الوجدان والشعور؟ اللهم كلا.
طبيعة المعاني القرآنية ليست كلها مما يدرك بالذكاء وصدق الفراسة فمن ذلك:
ـــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم (ص 34).
أ- أنباء الماضي لا سبيل إليها إلا بالتلقي والدراسة:
ففي القرآن جانب كبير من المعاني العقلية البحتة، التي لا مجال فيها للذكاء والاستنباط، ولا سبيل إلى علمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقي والتعلم؛ ماذا يقولون فيما قصه علينا القرآن من أنباء ما قد سبق وما فصله من تلك الأنباء على وجهه الصحيح كما وقع؟ أيقولون: إن التاريخ يمكن وضعه أيضاً بأعمال الفكر ودقة الفراسة؟ أم يخرجون إلى المكابرة العظمة فيقولن إن محمداً قد عاصر تلك الأمم الخالية، وتنقل فيها فشهد هذه الوقائع مع أهلها شهادة عيان، أو أنه ورث كتب الأولين وعكف على دراستها حتى أصبح من الراسخين في علم دقائقها؟ إنهم لا يسعهم أن يقولوا هذا ولا ذاك؛ لأنهم معترفون مع العالم كله بأنه لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء:
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
[آل عمران: 44]
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }
[يوسف: 102]،
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلْأَمْرَ}
[القصص: 44]
{وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٍۢ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّٱرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ}
[العنكبوت: 48]
{تِلْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا}
[هود: 49]
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلْغَٰفِلِينَ}
[يوسف: 3]
لا نقول: إن العلم بأسماء بعض الأنبياء والأمم الماضية، وبمجمل ما جرى من حوادث التدمير في ديار عاد وثمود وطوفان نوح وأشباه ذلك لم يصل قط إلى الأميين؛ فإن هذه النتف اليسيرة قلما تعزب عن أحد من أهل البدو أو الحضر؛ لأنها مما توارثته الأجيال وسارت به الأمثال، وإنما الشأن في تلك التفاصيل الدقيقة والكنوز المدفونة في بطون الكتب، فذلك هو العلم النفيس الذي لم تنله يد الأميين، ولم يكن يعرفه إلا القليل من الدارسين، وإنك لتجد الصحيح المفيد من هذه الأخبار محرراً في القرآن، حتى الأرقام طبق الأرقان؛ فترى – مثلاً – في قصة نوح عليه السلام في القرآن أنه لبث في قومهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي سفر التكوين من التوراة أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة، وترى في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية، وفي القرآن أنهم لبثوا في كهفهم:
{وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلَٰثَ مِائَةٍۢ سِنِينَ وَٱزْدَادُوا تِسْعًا}
[الكهف: 25]
وهذه السنون التسع هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية؛ قاله الزجاج يعني: بتكميل الكسر.
فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة امية لا تكتب ولا تحسب.
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
نعم إنها لعجيبة حقاَ: رجل أمي بين أظهر قوم أميين، يحضر مشاهدهم – في غير الباطل والفجور – ويعيش معيشتهم مشغولاً برزق نفسه وزوجه وأولاده، راعياً بالأجر، لا صلة له بالعلم والعلماء؛ يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بن عشية وضحاها، فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته، وبما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك؛ ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى ما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم؟ أفي مثل هذا يقول الجاهلون: إنه استوحى عقله واستلهم ضميره؟ أي منطق يسوغ أن يكون هذا الطور الجديد العملي نتيجة طبيعية لتلك الحياة الماضية الأمية؟ إنه لا مناص في قضية العقل من أن يكون لهذا الانتقال الطفري سر آخر يلتمس خارجاً عن حدود النفس وعن دائرة المعلومات القديمة، وإن ملاحدة الجاهلية وهم أجلاف الأعراف في البادية كانوا في الجملة أصدق تعليلاً لهذه الظاهرة، وأقرب فهما لهذا السر من ملاحدة هذا العصر، إذ لم يقولوا كما قال هؤلاء: إنه استقى هذه الأخبار من وحي نفسه، بل قالوا: إنه لا بد أن تكون قد أمليت عليه منذ يومئذ علوم جديدة؛ فدرس منها ما لم يكن قد درس، وتعلم ما لم يكن يعلم:
{وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْآيَٰتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ}
[الأنعام: 105]
{وَقَالُوٓا أَسَٰطِيرُ ٱلْأَوَّلِينَ ٱكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
[الفرقان: 5]
ولقد صدقوا؛ فإنه درسها، ولكن على أستاذه الروح الأمين، واكتتبها (1)، ولكن من صحف مكرمة مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة كرام بررة:
{قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُۥ عَلَيْكُمْ وَلَآ أَدْرَٰكُم بِهِۦ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِۦٓ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[يونس: 16]
ذلك شأن ما في القرآن من الأنباء التاريخية، لا جدال في أن سبيلها النقل لا العقل، وأنها تجيء من خارج النفس لا من داخلها.
ــــــــــــــــــــــ
(1) دراز لا يقصد أن النبي ﷺ كان يكتب، ولكن هو أسلوب بلاغي يقصد به إقحام الخصم بالتسليم له.
أما سائر العلوم القرآنية فقد يقال: إنها من نوع ما يدرك بالعقل، فيمكن أن ينالها الذكي بالفراسة والروية. وهذا كلام قد يلوح حقاً في بادئ الرأي، ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام الاختبار، ذلك أن العقول البشرية لها في إدراك الأشياء طريق معين تسلكه، وحد محدود تقف عنده ولا تتجاوزه، فكل شيء لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن مباشرة، ولم يكن مركوزاً في غريزة النفس؛ إنما يكون إدراك العقول إياه عن طريق مقدمات معلومة توصل إلى ذلك المجهول، أما بسرعة كما في الحدس (1)، وإما ببطء كما الاستدلال والاستنباط والمقايسة (2)، وكل ما لم تمهد له هذه الوسائل والمقدمات لا يمكن أن تناله يد العقل بحال، وإنما سبيله الإلهام، أو النقل عما جاءه ذلك الإلهام.
فهل ما في القرآن من المعاني غير التاريخية كانت حاضرة الوسائل والمقدمات في نظر العقل؟
ذلك ما سيأتي نبأه بعد حين، ولكننا نعجل لك الآن بمثالين من تلك المعاني نكتفي بذكرهما هنا عن إعادتهما بعد:
أحدهما: قسم العقائد الدينية.
والثاني: قسم النبوءات الغيبية.
ــــــــــــــــــــــ
(1) الحدس: الظن والتخمين.
(2) المقاسة: القياس، وهو الاستدلال على الشيء بمثله أو شبيهه.
ب- الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها:
فأما أمر الدين فإن غاية ما يجتبيه العقل من ثمرات بحثه المستقبل فيه، بعد معاونة الفطرة السليمة له؛ هو أن يعلم أن فوق هذا العالم إلهاً قاهراً دبره، وأنه لم يخلقه باطلاً؛ بل وضعه على مقتضى الحكمة والعدالة؛ فلا بد أن يعيده مرة أخرى لينال كل عامل جزاء عمله، إن خيراً وإن شراً.
هذا هو كل ما يناله العقل الكامل من أمر الدين، ولكن القرآن لا يقف في جانبه عند هذه المرحلة؛ بل نراه يشرح لنا حدود الإيمان مفصلة، ويصف لنا بدء الخلق ونهايته، ويصف الجنة وأنواع نعيمها، والنار وألوان عذابها، كأنهما رأي عين، حتى إنه ليحصي عدة الأبواب، وعدة الملائكة الموكلة بتلك الأبواب، فعلى أي نظرية عقلية بنيت هذه المعلومات المحاسبية، وتلك الأوصاف التحديدية؟ إن ذلك ما لا يوحي به العقل البتة، بل هو إما باطل فيكون من وحي الخيال والتخمين، وإما حق فلا ينال إلا بالتعليم والتلقين، لكنه الحق الذي شهدت به الكتب واستيقنه أهلها:
{وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَٰٓئِكَةً ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِيمَٰنًا ۙ وَلَا يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ}
[المدثر: 31]
{وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَٰنُ}
[الشورى: 52]
{ مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلَإِ ٱلْأَعْلَىٰٓ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
[ص: 69]
{وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَٰبِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}
[يونس: 37].
ج- أنباء المستقبل قد تستنبط بالمقايسة الظنية، ولكنها لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق:
وأما النبوءات الغيبية فهل تعرف كيف يحكم فيها ذو العقل الكامل؟ إنه يتخذ من تجاربه الماضية مصباحاً يكشف على ضوئه بضع خطوات من مجرى الحوادث المقبلة، جاعلاً الشاهد من هذه مقياساً للغائب من تلك، ثم يصدر فيها حكماً محاطاً بكل تحفظ وحذر، قائلاً: “ذلك ما تقضي به طبيعة الحوادث لو سارت الأمور على طبيعتها، ولم يقع ما ليس في الحسبان”، أما أن يبت الحكم بتاً، ويحدده تحديداً، حتى فيما لا تدل عليه مقدمة من المقدمات العلمية، ولا تلوح منه أمارة من الأمارات الظنية العادية؛ فذلك ما لا يفعله إلا أحد رجلين:
إما رجل مجازف لا يبالي أن يقول الناس فيه: صدق أو كذب، وذلك هو دأب جهلاء المتنبئين من العرافين والمنجمين.
وإما رجل اتخذ عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده، وتلك هي سنة الأنبياء والمرسلين، ولا ثالث لهما إلا رجلاً روى أخباره عن واحد منهما.
فأي الرجلين تراه في صاحب هذا القرآن حينما يجيء على لسانه الخبر الجازم بما سيقع بعد عام وما سيقع في أعوام، وما سيكون أبد الدهر، وما لن يكون أبد الدهر؟ ذلك وهو لم يتعاط علم المعرفة والتنجيم، ولا كانت أخلاقه كأخلاقهم تمثل الدعوى والتقدم، ولا كانت أخباره كأخبارهم خليطا من الصدق والكذب، والصواب والخطأ. بل كان مع براءته من علم الغيب وقعوده عن طلبه وتكلفه، يجيئه عفواً ما تعجز صروف الدهر وتقلباته في الأحقاب المتطاولة أن تنقض حرفاً واحداً مما ينبئ به:
{وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٌ لَّا يَأْتِيهِ ٱلْبَٰطِلُ مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ}
[فصلت: 41-42]
ولنسرد لك ها هنا بعض النبوءات القرآنية مع بيان شيء من ملابساتها التاريخية؛ لترى هل كانت مقدماتها القريبة أو البعيدة حاضرة فتكون تلك النبوءات من جنس ما توحس به الفراسة والألمعية؟
مثال ذلك:
ما جاء في بيان أن هذا الدين قد كتب الله له البقاء والخلود، وأن هذا القرآن ضمن الله حفظه وصيانته:
{كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَٰطِلَ ۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْأَمْثَالَ}
[الرعد: 17]
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍۢ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَآءِ تُؤْتِىٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ}
[إبراهيم: 24- 25]
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ}
[الحجر: 9]
أتعلم متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟ إنها آيات مكية من سور مكية، وأنت قد تعرف ما أمر الدعوة المحمدية في مكة؟ عشر سنوات كلها إعراض من قومه
عن الاستماع للقرآن، وصد لغيرهما عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شعب من شعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك – الذي طوله عشرة أعوام – شعاعاً ولو ضئيلاً من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم (1)؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكماً قاطعاً؟ وهبه امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك، وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟ فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح، فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح! وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها! وكم من نبي قتل! وكم من كتاب فقد أو انتقص أو بدل! وهل كان محمد ﷺ ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبياً يوحي إليه:
{وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓا أَن يُلْقَىٰٓ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ}
[القصص: 86]
ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظاً لديه:
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِۦ عَلَيْنَا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ فَضْلَهُۥ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا}
[الإسراء: 86- 87]
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) وتوجهت قريش في ختام العشر القرار النهائي لاغتياله وإسدال الستار على دعوته، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} [الانفال: 30].
فلابد إذاً من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علماً بمجرها ومرساها، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة، لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آو وآن. سل التاريخ: كم مرة تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين، فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أمماً منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب وهدموا المساجد، وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلاً أو بعضاً كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه، فبقي في وسط هذه المعامع رافعاً راياته وأعلامه، حافظاً آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء ثم لا ظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}
[الأنفال: 36]
ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ذلك بأن الله:
{هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ}
[التوبة: 33]
والله بالغ أمره ومتم نوره، فظهر وسيبقى ظاهراً لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله” (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النبأ العظيم (ص 38- 47).