كان قد مضى عام كامل على انتهاء غزوة الأحزاب حين أعلن رسول الله ﷺ عزمه على أداء العمرة واستنفر الناس للمشاركة في ذلك.
والمستنفرون هم أهل المدينة المهاجرون والأنصار، وكذلك الأعراب الذين أسلموا حديثاً واستقروا حول المدينة. وهم من أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل (1).
لم تكن المعطيات العامة – بغض النظر عن الالتزام الإيماني – تشجع على المشاركة في هذه العمرة، لأكثر من سبب:
– فالحرب ما زالت قائمة بينه ﷺ وبين قريش، وقد هاجمته في المدينة مرتين خلال سنتين، في أُحُد والخندق، وذهابه ﷺ للعمرة فيه تحدٍ كبير لقريش مما يتوقع معه بل يغلب على الظن وقوع القتال.
– كانت العرب كلها تهاب قريشاً، ولا تريد أن تدخل معها في معركة، بل إن وفد بني عبد بن عدي حين وفدوا على رسول الله ﷺ وأسلموا اشترطوا ألا يقاتلوا قريشاً. فكان من قولهم: يا محمد، نحن أهل الحرم وساكنه وأعز من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلت غير قريش قاتلنا معك ولكنا لا نقاتل قريشاً، وإنا لنحبك ومن أنت منه. . فأسلموا (2).
_______________________
1. انظر تفسير سورة الفتح في تفسير العلامة أبي السعود.
2. طبقات ابن سعد 1/ 306.
وإذن فالمعركة لو حدثت ستكون مع قريش، وهذا أمر لا ترغب به كثير من القبائل.
– إن قوة الرسول ﷺ ما زالت قليلة في نظر كثير من الناس ولذلك لو حدث قتال فالمتوقع حسب المعطيات المادية أن ينتصر صاحب القوة الأكبر. .
لهذا ولغيره لم يجد استنفار النبي ﷺ من المنافقين الذين هم في المدينة (1) ولا من الأعراب الذين هم في أطراف المدينة أذناً صاغية، فقد كانوا يتوقعون ويظنون ظن السوء، وقد سجل القرآن أمر الفريقين في سورة الفتح:
فقال تعالى في حق المنافقين:
{وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَٰتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا} (2).
وقال تعالى في حق الأعراب:
{سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًۢا ۚ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۢا بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًۢا بُورًا} (3).
_______________________
1. إلا الجد بن قيس، فإنه خرج – فيما يبدو – لحاجة خاصة به، ولذلك لم يشترك في البيعة.
2. سورة الفتح: الآية 6.
3. سورة الفتح: الآيتان 11- 12 قال في صفوة التفاسيرنقلاً عن التسهيل لعلوم القرآن: وقد رأى الأعراب أنه يستقبل عدداً من قريش وغيرهم فقعدوا عن الخروج، ولم يكن إيمانهم متمكناً.
وهكذا تذكر الآيات الكريمة ما كان يجول بخاطرهم وخاطر المنافقين من أن قريشاً سوف تحصد المسلمين حصداً، بحيث لن يرجع أحد إلى أهله.
وانطلق صلى الله عليه وسلم مع هلال ذي القعدة للسنة السادسة من الهجرة مع ألف وأربعمائة (1) من المهاجرين والأنصار وبعض الأعراب، تجاه مكة لأداء العمرة.
عمرة أم غزوة؟:
عنوان بعض كتاب السيرة لهذا البحث بـ”غزوة الحديبية” منهم ابن حزم وابن كثير. , فهل كانت غزوة؟
الذي يبدو أن الرسول ﷺ كان على قناعة كاملة بأن قريشاً ما زالت الحاجز بينه وبين الناس، وأنه لا بد من أجراء ما، في سبيل كسر هذا الحاجز. ولعل اللقاء بين الفريقين أثناء أداء مناسك العمرة يكون فاتحة جديدة لعهد سلم بين الفريقين. . .
لقد اتخذ ﷺ كل الإجراءات التي تؤكد سلامة نيته وأنه يريد العمرة ولا يريد قتالاً، ومن ذلك:
– إحرامه ﷺ وأصحابه.
– سوق الهدي.
– خروجه في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم التي يضع الناس فيها السلاح. ولكن إذا كان ﷺ إنما يريد العمرة ولا يريد القتال، فما الذي يضمن له أن قريشاً ستكون راغبة في السلم؟
_______________________
1. وهذا مما يؤكد أن المسلمين كانوا في غزوة الخندق ألف مقاتل فقط.
إن احتمال حدوث القتال أمر قائم إذا لجأت قريش إلى ذلك، ولهذا نجد أن الرسول ﷺ قد اتخذ بعض الاحتياطات لذلك.
– لم يكن جميع الصحابة محرمين، مما يدل أن مدلول استنفار النبي ﷺ للناس كان أوسع من كونه للعمرة فحسب. ففي حديث أبي قتادة المتفق عليه قوله:
(خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ (1) فَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ.. )
(2)
وهذا يعني أن غير المحرمين لم يقصدوا العمرة وإنما قصدوا مصاحبة رسول الله ﷺ، لأنهم لو أرادوا العمرة لأحرموا من الميقات الذي تجاوزوه.
ويؤكد هذا: وقوف المغيرة بن شعبة، أثناء المفاوضات، خلف رسول الله ﷺ بكامل عتاده الحربي والمغفر فوق رأسه وهذا يعني أنه غير محرم (3).
– وفي حديث مسلم أن رسول الله ﷺ وجه من أصحابه في مهمة منهم أبو قتادة فقال لهم: “خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي” (4) ولعلها كانت مهمة استطلاعية. .
– تذكر بعض الروايات أنه كان مع رسول الله ﷺ مائتا فارس (5).
– كما تذكر أنه قدم أمامه عيناً له من خزاعة (6).
فكل هذه الأمور تدل على أنه ﷺ قد احتاط للأمر وهيأ نفسه للحالة التي قد يحدث فيها قتال على الرغم من الاقتصار في السلاح على السيوف.
_______________________
1. هو واد على ثلاث مراحل من المدينة.
2. رواه البخاري برقم 1823 ومسلم برقم 1196.
3. رواه البخاري برقم 2731 وهو عند ابن هشام 2/ 313.
4. رواه مسلم كتاب الحج رقم 60.
5. انظر شرح الزرقاني على المواهب 2/ 181.
6. المصدر السابق 2/ 181.
ولا شك بأنه ﷺ كان غير راغب بحدوث القتال، وما سعيه لتكثير الذين يخرجون معه إلا ليكون ذلك أدعى لقريش حتى لا تفكر في القتال، لأنها لو رأت المسلمين قلة فربما تبادر لذهنها أنها فرصة للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يؤيد ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم – حين بركت ناقته -:
“حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا” (1).
نخلص من هذا كله إلى أنها عمرة، ولكن الاحتياطات اتحذت لتحويلها إلى غزوة عند الضرورة.
عقد الصلح:
حط ﷺ رحاله قريباً من مكة، وكانت بينه وبين قريش مفاوضات انتهت إلى عقد الصلح بالشروط التالية:
1- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين، يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
2- من أتى محمد من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه.
3- من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فدخلت خزاعة في عهد النبي، ودخلت بنو بكر في عقد قريش.
4- أن يرجع الرسول وأصحابه من غير عمرة هذا العام، فإذا كان العام القابل خرج عنها المشركون، ودخلها المسلمون، ويقيمون بها ثلاثة أيام، وليس معهم من السلاح إلا السيوف في قربها.
_______________________
1. رواه البخاري برقم 2731.
وعلى الرغم من عدم رضى كثير من الصحابة عن هذه الشروط لما فيها من إجحاف بحق المسلمين، وخاصة ما جاء في الشرط الثاني، الذي كان أبو جندل أو تطبيق له (1). وكان أبو بصير التطبيق الثاني له (2)، نقول على الرغم من ذلك فقد كانت نتائج ذات آثار كبرى مما جعل هذا العقد فتحاً كما أشار إليه القرآن الكريم في سورة الفتح. ومن هذه النتائج:
1- اعتراف قريش بالنبي ﷺ وبالمسلمين كقوة لها وجودها وهي في مستوى الند لها (3).
2- فتح الباب أمام القبائل أن تنضوى تحت أحد الجانبين إذا أرادت.
3- هيبة القوة الإسلامية وخاصة من قبل المنافقين والأعراب الذين كانوا يظنون أن هذه القوة لن تعود ثانية إلى المدينة، الأمر الذي كان له الأثر الكبير في انسياح الدعوة بعد ذلك.
4- والأهم من هذا كله، أن الرسول ﷺ قد حقق بهذا الصلح الغاية التي كان يصبو إليها، وهي عزل قريش جانباً، وأن يخلى بينه وبين الناس، فقد كانت قريش عقبة كأداء بينه وبين الناس، مما كان يعيق حركة الدعوة بل ربما عطل حركتها في بعض الأحيان. ووضع قريش جانباً – ولو إلى حين – يتيح للدعوة أن تأخذ بزمام المبادرة وتتحرك الحركة الإيجابية الفعالة. وقد عبر ﷺ عن رغبته تلك أثناء الطريق. . حينما أخبر أن قريشاً خرجت تريد منعه من دخول مكة. .
_______________________
1. جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في الحديد أثناء كتابة العقد وقد حاول صلى الله عليه وسلم أن يستثنيه ولكن أباه الذي كان مفوض قريش رفض ذلك فرد إلى المشركين.
2. جاء هارباً من مكة إلى المدينة فأرسلت قريش بطلبه، فسلمه صلى الله عليه وسلم إليهم، ولكنه قر ممن استلمه وذهب إلى ساحل البحر. . وشكل جماعة ضيقت على قريش الأمر الذي دعاهم إلى التنازل عن شرطهم.
3. سيرة الرسول ﷺ لمحمد عزت دروزة 2/ 352.
فقال عند ذلك: “ماذا عليهم لو خلو بيني وبين سائر العرب. .”
هذه هي الغاية التي يهدف إليها صلى الله عليه وسلم، فإن قريشاً كانت حاجزاً بينه وبين سائر العرب. فإقامة الصلح معها يعني زوال هذا الحاجز.
وقد كان هذه من حكمته صلى الله عليه وسلم وتخطيطه البعيد المدى الذي غاب عن الصحابة رضي الله عنهم باستثناء أبي بكر رضي الله عنه. . كما كان واضحاً من مسلكهم عند إبرام العقد. .