القائمة الرئيسية

طهارة بيوته ﷺ

برز النفاق بعد غزوة بدر، ليكون العدو الداخلي الذي يعيش في صفوف المسلمين، فيعرف من ثغرات الضعف لديهم، ما لا يمكن للعدو الخارجي معرفته.

وكانت أول مواقفه الخبيثة، في تخذيل جيش المسلمين في غزوة أحد، حيث رجع رأس النفاق عبدالله بن أبي بثلث الجيش.

ثم كانت غزوة الخندق، التي لم يقتصر دور المنافقين فيها على عدم المشاركة، بل جعلوا يضعون عزائم المسلمين بما يذيعونه عن قوة المشركين. .

ثم كانت غزوة بني المصطلق حيث بلغ النفاق فيها ذروة الخط البياني، فظهر منهم في عداوة المسلمين ما لم يحدث من قبل، وبرز ذلك في أمرين:

الأول: قول زعيمهم: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل.

والثاني: قصة الإفك التي كانت موجهة إلى ذات الرسول ﷺ في شخص أحب الناس إليه. .

وهو استهداف مباشر للنيل من بيت النبوة، وهو من أسوأ ما قام به المنافقون، فقد باءت جهودهم بالفشل على أرض المعارك، وعلى الصعيد السياسي، فاتجهوا إلى أسلوب جديد، وهو محاولة النيل من بيت النبوة. . وهو ما عرف بقصة الإفك.

وبما أن هذا الحديث ذا ارتباط شديد ببيت النبوة كان لا بد من الوقوف عنده، نستطلع فيه تصرفه ﷺ في هذا الأمر الخطير، وكيف تمت معالجته.

ولنترك الحديث للسيدة عائشة رضي الله عنها، صاحبة الشأن في هذه القصة لتروي لنا تفاصيلها وملابساتها:

“قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.
قَالَتْ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ.
فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدْ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ
قَالَتْ وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يُرَحِّلُونِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَهْبُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنْ الطَّعَامِ فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ فَسَارُوا.
وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ.
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَ وَاللَّهِ مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ وَهَوَى حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ وَهُمْ نُزُولٌ”.

ووجد عبدالله بن أبي فرصته السانحة، ليطعن في عائشة رضي الله عنها، وكان هو الذي تولى كبر الإفك، فكان يتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه. . فكان مصدراً لانتشار الخبر وذيوعه.

قالت عائشة: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَا أَشْعُر بِشَيء مِنْ ذَلِك.
وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنْ النَّبِيِّ ﷺ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أشتكي، إِنَّمَا يَدْخُلُ عليَّ رسول الله فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: (كَيْفَ تِيكُمْ؟) ثم ينصرف فذلك يريبني وَلَا أَشْعُرُ بِالشر.
حَتَّى خَرَجت حين نَقَهْتُ فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ – وَكَانَ مُتَبَرَّزُنَا – وَكُنا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا. .
قَالَت: فَانطَلقتُ أَنَّا وَأُمُّ مِسْطَحٍ  – وَهِيَّ ابنة خَالة أَبِي بَكر، وَابْنَهَا مسطح بِنْ أَثَاثَة بِنَ عبدالمطلب – فَلَمَّا فَرَغَنَا أَقْبَلنَا قِبَل بَيتي فَعَثرت أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ.
فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَال؟ قُلت: وَمَا قَالَ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ.
قَالَت: فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَلَّمَ فَقَالَ: (كَيْفَ تِيكُمْ؟) فَقُلْتُ ائْذَنْ لِي إِلَى أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا.
قَالَت: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يا أمتاه مَاذَا يَتَحَدَّث النَّاسُ؟
فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيك فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا.
قَالَت: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا؟
قَالَتْ عائشة: فَبَكيت تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي. .

هذا شأن عائشة. .

أما شأن رسول الله ﷺ فكان يتوقع أن ينزل عليه والوحي بشأن هذه المشكلة فلما تأخر الوحي، وكثر لغط الناس من المنافقين، ومن المغفلين من المسلمين 

دعا رسول الله ﷺ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَسْأَلُهُمَا وَيَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: أَهْلَكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَرِيرَةَ عَملاً بِإشارة علي رضي الله عنه – فَقَالَ: (أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟). قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَكثر مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. سَأَلَ الرَسُول اللَّهِ ﷺ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي فَقَالَ لِزَيْنَبَ (مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي عَنْهُ أَذَاهُ فِي أَهْلِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي). فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْذِرُكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ – وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ – فَقَالَ لأسيد: كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ. فَقَالَ أُسيد لِسَعْدِ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ. فَتَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ – وَهُو قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ – يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ. قالت عائشة: فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَأَنَّا أَسْأل أُمِّي وَكَانَ فَوْقَ الْبَيْتِ يَقْرَأُ فَنَزَلَ فَقَالَ لِأُمِّي مَا شَأْنُهَا؟ قَالَتْ بَلَغَهَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: أَقَسَمْتُ عَلَيْكِ يَا بُنَيَّةُ إِلَّا رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكِ فَرَجَعْتُ.   قالت: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي.   قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَيْنَا فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ.   قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)
 قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِّي فِيمَا قَالَ.
 فَقَالَ أَبِي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِيمَا قَالَ.
قَالَتْ أُمِّي: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ كَثِيرًا إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ حِينَ قَالَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]
ثُمَّ تَحَوَّلْتُ وَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي حِينَئِذٍ بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى لَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا.
فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَجْلِسَهُ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْبُرَحَاءِ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ).
قَالَتْ فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ فَإِنِّي لَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَتْ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] الْعَشْرَ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي (1).

وتصف عائشة حالة أبويها عند نزول الوحي فتقول: أما أنا، فقلت إن الله لا يقول إلا الحق، وأما أبواي، فوالذي ذهب بأنفاسهما، ما أقلع عن رسول الله ﷺ إلا خفت أن أرواحهما ستخرجان.

تلك هي قصة هذه الحادثة، كما جاءت على لسان السيدة عائشة في “الصحيحين” وغيرهما.

ويحسن بنا أن نتوقف عند سلوك النبي ﷺ إزاء هذا الحدث المؤلم، الذي أهمه خلال شهر من الزمن. .

______________________

1. رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770)، والترمذي (3180).


هذا الشهر يمضي دون أن تشعر عائشة بما يدور في المدينة، ولم يشعرها النبي ﷺ بذلك، لأنه كان – والله أعلم – مطمئناً إلى براءتها، وكان ينتظر أن يأتيه الوحي فيحل عقدة هذه المسألة قبل أن تعلم بها عائشة.

إن عدم إعلامها كان منه ﷺ حرصاً على عدم جرح مشاعرها بتوجيه التهمة لها. . وهي لم تشعر بشيء إلا بعدم اهتمامه بها في مرضها، كما كان يفعل فيما سبق.

وهذا أمر كان لا بد منه، توافقاً مع حالته النفسية ﷺ، فهو لم يصدق الخبر ولكن الحبر يلوكه الناس. .

وهذا ما ألجأه بعد مضي قرابة الشهر إلى استشارة أسامة وعلي رضي الله عنهما وإلى سؤال بريرة، وإلى سؤال زينب بنت جحش. . الأمر الذي كان يؤكد براءتها.

وهذا ما دفعه إلى ارتقاء المنبر. . كما رأينا. .

ولكن كل هذه الأمور لم توصله إلى يقين يستطيع به إخراس الألسنة الحاقدة، فكان لا بد من مفاتحة عائشة رضي الله عنها بالموضوع ومعرفة حقيقة ما حدث.

وعندها نزل الوحي.

واقتضت حكمة الله أن يكون الوحي قرآنا يتلى، لأنه لو كان الوحي رؤيا منامية كما كانت تتوقع السيدة عائشة، لكان للمنافقين مقال في ذلك، بأنه ﷺ قال ذلك استنقاذاً لبيته الكريم ولصديقه الحميم أبي بكر، ولكان ذلك غير قاطع للألسنة الخبيثة، فكان نزول ذلك آيات بينات، إحقاقاً للحق وإثباتاً للبراءة وحسماً لهذه الفرية العظيمة.

وقد يتساءل بعضهم: كيف لم تفكر السيدة عائشة وهي تقدم مع صفوان بن المعطل بما قد يقال؟

والجواب: لا يحتاج إلى إعمال فكر، فالمرأة الحرة الشريفة لم يكن ليطرأ على فكرها مثل هذا الخاطر، والذي يبدو أن هذه القضايا كانت تحدث في الجاهلية مروءة وشهامة، وقد مر معنا في ترجمة أم سلمة، كيف أن عثمان بن طلحة قد صحبها من مكة إلى المدينة  – وكان ما يزال على شركه – وهذا من القيم التي كان العرب يفاخرون بها.

فلم تر السيدة عائشة فيما حدث ما يشين، أو ما يكون محل استشكال، بل لم يخطر ذلك على فكرها، بل ولم يخطر على فكر صفوان أيضاً، وفقد قال حين بلغه خبر  ما يقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف (1) أنثى قط.

هذا ولولا فعل المنافقين وما خبوا به وأوضعوا لما كان لهذا الحدث أي وجود.

إن قدوم عائشة وصفوان على الرسول ﷺ في نحر الظهيرة، وفي وضح النهار، لدليل على براءتهما، ولو كان غير ذلك لتحينا وقتاً آخر يكون فيه بعيداً عن الأعين.

ولقد كانت أمهات المؤمنين جميعاً، على قدر عال من الأمانة، ولا شك بأنه ﷺ سألهن كما سأل زينب. . ولم يثبت أن واحدة منهن تكلمت بكلمة فيها ما يخدش من مقام السيدة عائشة، بل كن جميعاً كما كانت زينب رضي الله عنهن جميعاً، فلم تحملهن الغيرة على الولوغ في عرض أختهن زوراً وبهتاناً.

وعندما نزلت الآيات ببراءة السيدة عائشة، أقام ﷺ حد القذف على من ثبت عليه ذلك، وكانوا ثلاثة، رجلان وامرأة.

______________________

1. الكنف: الجانب، والمراد هنا: ثوبها الذي يسترها.


أما الرجلان فهما: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وأما المرأة فهي حمنة بنت جحش، أخت زينب زوج النبي ﷺ.

وقد يستغرب القارئ لهذه الحادثة: كيف أن عبدالله بن أبي بن سلول – وهو الذي تولى كبر هذه الجريمة، وهو الذي كان ينشرها كما جاء ذلك في “الصحيحين”  – لم يثبت عليه ذلك، ولا على أحد من المنافقين، ولذا لم يقم عليهم الحد، وذلك أنهم كانوا يتداولونه سراً، ومن وراء وراء. . فيقع في ذلك البسطاء من المسلمين والمغفلون، كما حدث لحسان ومسطح وحمنة.

وقد كان ﷺ على يقين من دور عبدالله بن أبي، ولكنه لما لم تتوفر في حقه البينة اللازمة، لم يحكم عليه بإقامة الحد، ولم يعمل ﷺ بعلمه في ذلك.

ومن هذه الواقعة وأمثالها قال فقهاء الأمة: إن القاضي لا يعمل بعلمه، بل بالبينة المقدمة له.

واستكمالاً لهذه البحث، في موضوع طهارة بيوته ﷺ، لا بد لنا من الوقوف على الحديث الذي أخرجه مسلم عن أنس رضي الله عنه، حيث قال:

أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ (اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ) فَأَتَاهُ عَلِيٌّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ (1) يَتَبَرَّدُ فِيهَا فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ اخْرُجْ فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ (2).

وجاء في “الإصابة” أن المقوقس بعث إلى رسول الله ﷺ بمارية وأختها سيرين وبعث معهما بخصي يقال له: مأبور. .

______________________



1. الركي: البئر.

2. رواه مسلم (2771).


والذي يبدو أن هذه الخصي كان يدخل على مارية – وهي أم ولد رسول الله ﷺ – بعامل المعرفة السابق بينهما وعيشهما في بيت المقوقس. .

والكلام الذي دار حول مأبور، إنما كان بسبب عدم معرفة الناس بأنه خصي.

والذي يستوقفنا في حديث الإمام مسلم: هو أمره ﷺ  بقتل الرجل دون التثبت من ذنبه، وهو الذي لإقامة العدل وإحقاق الحق.

والذي يبدو – والله أعلم – أن رسول الله ﷺ كان على علم بحاله بواسطة مارية أو أن الله أطلعه على ذلك.

وأن إرسال علي رضي الله عنه في نحر الظهيرة ليقتله، إنما كان عن وحي ليجد الرجل وهو يتبرد، ويراه عارياً، ويظهر للناس كذب ظنهم.

والرسول ﷺ الذي لك يقم الحد على عبدالله بن أبي في شأن عائشة وكان على يقين من مشاركته في ذلك لعدم وجود البينة، ما كان ليأمر بقتل إنسان على الظن، ومع الفارق الكبير بين إقامة حد القذف، وبين القتل الذي هو إزهاق الروح.

 فما من شك بأن الأمور كانت مرتبة بواسطة الوحي ليطلع علي رضي الله عنه على واقع رجل. . ويعلم الناس بذلك من بعد.

 وبهذا تظل بيوته  ﷺ فوق الشكوك والريب والشبهات، كيف لا يكون ذلك. والله يقول في حق نساء النبي ﷺ: 

{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}

[الأحزاب: 33].

وأخيراً، لا بد من وقفة مع معالجته ﷺ لحادثة الإفك، فقد كان ذلك في روية وأناة، ولم يستعجل الأمور.

وكم ذهب الاستعجال بهذه الأمور وعدم الروية فيها بأنفس بريئة، تبينت براءتها بعد فوات الأوان.

وقد روى الإمام البخاري في “الأدب المفرد” (1) عن الحسن: أن رجلاً ذهبت بطلب العلم وترك امرأته حاملاً. . وطالت غيبته، فلقي عالماً. . فقال له العالم: إذا أردت أن تنطلق فقل لي أعلمك.

فلما أراد الرجل الرجوع إلى بلده قال للعالم: حضر مني الخروج فعلمني.

فقال له: اتق الله، واصبر، ولا تستعجل.

قال الحسن: في هذا الخير كله.

فجاء الرجل أهله، ولا يكاد ينساهن، إنما هن ثلاث. فلما دخل الدار إذا هو برجل نائم متراخ عن المرأة، وإذا امرأته نائمة. قال: والله ما أريد أن أنتظر بهذا؟ وكأنه نسي أنه ترك امرأته حاملاً.

 فرجع إلى راحلته، فلما أراد أن يأخذ السيف قال: اتقٍ الله، واصبر، ولا تستعجل.

فرجع، فلما قام على رأسه، قال: ما أنتظر بهذا شيئاً.

 فرجع إلى راحلته، فلما أراد أن يأخذ سيفه، ذكره، فرجع إليه. فلما قام على رأسه استيقظ الرجل، فإذا هو ابنه، فلما رآه وثب إليه فعاتقه وقبله وسائله فقال: ما أصبت بعدي؟

 فقال الأب: أصبت والله بعدك خيراً كثيراً. أصبت والله بعدك أني مشيت الليلة بين السيف وبين رأسك ثلاث مرار، فحجزني ما أصبت من العلم عن قتلك.

وهكذا كان في التؤدة دفع شر محقق.

 وقد أوصى النبي ﷺ بذلك أحد أصحابه فقال: 

(إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة، حتى يريك الله منه المخرج، او حتى يجعل الله لك مخرجاً) (2).

 _____________________

1. “الأدب المفرد” الحديث (583).

2. “الأدب المفرد” (888).

مواضيع ذات صلة