العدل هو أول الواجبات الملقاة على عاتق الرجل عند عزمه على الاقتران بالزوجة الثانية، فإذا لم يكن واثقاً من نفسه بالنجاح في هذا الاختيار، فليقتصر على واحدة، كما جاء ذلك في قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَٰحِدَةً}
[النساء: 3]
وينبغي أن نتأمل جيداً كلمة “خِفْتُمْ” فأنها تعني – فيما تعنيه – عدم ثقة المرء بنفسه بأداء العدل المطلوب. .
وإذن: فعلى المسلم أن يزن نفسه قبل الإقدام على الزواج الثاني من قدرته على القيام بهذا الواجب الذي فرضه الله تعالى.
ومن المتفق عليه بين الفقهاء أن “العدل” المطلوب في الآية الكريمة، هو التسوية بينهن في القضايا المادية التي للإنسان القدرة على التحكم بها، من النفقة والكسوة والمسكن، وكل ما يتبع ذلك.
أما القضايا القلبية التي لا سيطرة للإنسان عليها والمتمثلة في العواطف، فإن الإنسان معذور فيها، وهي المشار إليها في قوله تعالى:
{وَلَن تَسْتَطِيعُوٓا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ ٱلْمَيْلِ}
[النساء: 129]
ولقد كان سلوكه ﷺ في معاملته لأزواجه، هو المثال العملي الذي ينبغي على المسلم أن يتبعه.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا (1).
وقالت: وكان ﷺ إذا أراد سفراً بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (2).
وكانت الهدية إذا جاءته وزعها عليهن بالتساوي. فقد أخرج الإمام أحمد عَنْ أَنَسٍ:
أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ – أمه – بَعَثَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِقِنَاعٍ (3) عَلَيْهِ رُطَبٌ فَجَعَلَ يَقْبِضُ قَبْضَتَهُ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ وَيَقْبِضُ الْقَبْضَةَ فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ. . ثُمَّ جَلَسَ فَأَكَلَ بَقِيَّتَهُ (4)..
وهكذا قدم زوجاته على نفسه في التوزيع، ولم يبق له إلا القليل الذي لو أكله المرء لانتهى منه وما زال في نفسه رغبة إليه . . كما جاء في نهاية الحديث.
أما أمر المبيت فقد جاءت التسوية فيه في أحاديث كثيرة، منها ما جاء في “البخاري”
عن عائشة رضي الله عنها: أنه ﷺ: أنه ﷺ كَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا (5)
ولما كان ﷺ في مرضه الذي توفي فيه، وشق عليه الانتقال من بيت إلى بيت استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة فأذن له (6).
وهكذا كن على قدم المساواة أمام عدله ﷺ في الصغير والكبير فيما يتعلق بالجانب المادي. .
______________________
1. رواه أبو داود (2135).
2. رواه البخاري (4141)، ومسلم (2770).
3. القناع: الطبق الذي يؤكل عليه.
4. “الفتح الرباني” للبنا (22/ 148) وقال: صحيح، ورجاله رجال الصحيحين.
5. رواه البخاري (2593).
6. رواه البخاري (5217).
قَالَت عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ) يَعْنِي: الْقَلْبَ (1).
لك هي سنة سيد المرسلين: العدل فيما يمكن العدل فيه. ويستوقفني في هذا الموضوع أمران:
الأول: خضوع الرسول ﷺ لهذا النظام العام، وعدم استثناء نفسه منه، بل لقد كان أكثر الناس تمسكاً به وتطبيقاً له. التزاماً مع أوامره سبحانه وتعالى بالعدل في كل الأمور، والعدل بهذا الشأن خاصة.
الثاني: أن الرقابة على التزام بتطبيق ذلك، هي لله سبحانه وتعالى، وبتعبير آخر، هي مراقبة الإنسان نفسه، وهي أدق أنواع المراقبة، إذ الإنسان على نفسه بصيرة، ولقد جاءت التحذيرات الكثيرة من الانحراف في هذا الشأن.
قَالَ ﷺ: (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ) (2)
إذا كنا بصدد الحديث عن عدله ﷺ بين زوجاته، فيحسن بنا أن نقف عند قصة مطالبته بذلك من بعضهن.
______________________
1. رواه أبو داود (2134)، وبقية “أصحاب السنن”.
2. رواه أبو داود (2133)، وبقية “أصحاب السنن”.
قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كُنَّ حِزْبَيْنِ.
فَحِزْبٌ فِيهِ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ.
وَالْحِزْبُ الْآخَرُ: أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَائِشَةَ فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعَثَ صَاحِبُ الْهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُكَلِّمُ النَّاسَ فَيَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هَدِيَّةً فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ.
فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئًا فَقُلْنَ لَهَا فَكَلِّمِيهِ قَالَتْ فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا فَسَأَلْنَهَا فَقَالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئًا فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ.
فَقَالَ لَهَا: (لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ فَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ).
قَالَتْ: فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
ونقف عند هذا الموضع من القصة.
فطلب أم سلمة يتعلق بقضية الهدايا، ولكن رسول الله ﷺ لم يجبها في شأن هذا الموضوع، وإنما أدرك أن قضية الهدايا وسيلة للتعبير عن غيرتهن من عائشة، وأن القضية لا صلة لها بموضوع العدل. فكان جوابه لأم سلمة بهذا الشكل.
وأدركت أم سلمة أنه ﷺ عرف ما وراء المطالبة بأمر الهدايا، فاعتذرت وتابت إلى الله مما يؤذي رسول الله ﷺ.
وأخبرت أم سلمة صاحباتها بما دار بينها وبينه ﷺ. فلم يقنعن بالجواب ولجأن إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها لتحمل رسالتهن مرة أخرى. ولكن صيغة هذه الرسالة تغيرت عما كانت عليه.
وقالت فاطمة رضي الله عنها: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ.
فَقَالَ ﷺ: (يَا بُنَيَّةُ أَلَا تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟). قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: (فأحبي هذه).
فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله ﷺ فرجعت إلى أزواج النبي ﷺ فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله ﷺ.
فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إليه. .
فقال فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً.
ونقف عند هذا المقطع الثاني، حيث يتأكد أن القضية لم تكن من أجل هدايا الناس، ولذلك كان جوابه ﷺ لابنته رضي الله عنها شبيهاً بالجواب الأول.
ولما امتنعت فاطمة من الرجوع. . أرسلن زينب بنت جحش – زوج النبي ﷺ – فاستأذنت على رسول الله ﷺ وهو في بيت عائشة، فأذن لها.
فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة.
قالت عائشة: ثم وقعت بي، فاستطالت علي، وأنا أرقب رسول الله ﷺ، وأرقب طرفة، هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله ﷺ لا يكره أن أنتصر.
قالت: فلما وقعت بها، لم أزل أرد عليها حتى أسكتها.
قَالَتْ فَنَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: (إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ) (1).
وإذا تأملنا هذه القصة تبين لنا أن الباعث الحقيقي لأم سلمة وحزبها لم يكن قضية الهدايا؛ بل هو غبطتهن عائشة على منزلتها عند رسول الله ﷺ.
______________________
1. رواه البخاري (2581)، ومسلم (2442).
ثم تبين هذا الأمر جلياً بموقف زينب رضي الله عنها، حيث اتجهت إلى السيدة عائشة وسبتها، وعائشة لا يد لها في أمر الهدايا. . فهي لم تطلب ذلك من الناس.
وإذا عدنا إلى أمر الهدايا التي اتخذت حجة لإثارة هذه المشكلة، فهي ليست من فعل الرسول ﷺ حتى يطالب بالعدل بشأنها، ورأينا قبل قليل أن الهدية عندما تصل إليه فإنه كان يوزعها بالتساوي. وأما طلبهن إعلان ذلك للناس، فذلك أمر يحول دونه كرم الرسول ﷺ وعفته، إذ “ليس من كمال الأخلاق أن يتعرض الرجل إلى الناس بمثل ذلك، لما فيه من التعرض لطلب الهدية” كما يقول الإمام ابن حجر (1).
ومما يلفت النظر أنه ﷺ يُتهمُ هنا بعدم العدل، ومع ذلك يتلقى ذلك بهدوء كامل ورحابة صدر، وذلك لعلمه أن الباعث لهن هو “الغيرة” وليس ذلك منهن اتهاماً له بالظلم، بينما لم يقبل ذلك عندما قيل له ذلك يوم حنين، وقال يومها: (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟) (2) وذلك لأن القائل هناك ينبعث من سوء الطوية.
وخلاصة القول: أنه ما من شك في أن العدل كان قائماً في بيوت أزواج النبي ﷺ في كل ما هو قابل لإقامة العدل، أما العواطف فقد اعتذر عنها إلى الله تعالى بقوله:
(اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ).
ولا بد لنا – ونحن نتحدث عن عدله ﷺ – من الوقوف عند قوله تعالى:
{تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِىٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ۖ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ۚ }
[الأحزاب: 51].
______________________
1. “فتح الباري” (5/ 208).
2. رواه البخاري (3150)، ومسلم (1062).
أخرج البخاري ومسلم:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أَغَارُ عَلَى اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَقُولُ أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قُلْتُ مَا أُرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ (1).
وللمفسرين في بيان معنى الآية رأيان.
يرى أصحاب الرأي الأول: أن الآية جاءت في حق الواهبات أنفسهن، وأنه كان للنبي ﷺ أن يؤخر من يشاء من الواهبات، وأن يقبل من يشاء.
ومن المعلوم – كما قال ابن عباس رضي الله عنهما – أنه لم يكن عند رسول الله ﷺ امرأة وهبت نفسها له (2).
وقال أصحاب الرأي الثاني ومنهم قتادة: ترجي من تشاء من أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القسم لهن، فتقدم من شئت وتؤخر من شئت. .
ومع هذا كان ﷺ يقسم لهن، قال قتادة: أطلق الله له أن يقسم كيف شاء فلم يقسم إلا بالسوية (3).
وهكذا – وعلى الرغم من أن الآية الكريمة تعطيه الحرية كاملة في عدم الالتزام بالقسم – فإنه لم يفعل ذلك، وظل طول حياته ملتزماً به.
وقد ظلت سنته ﷺ بالعدل بينهن سارية بعد وفاته ﷺ. فقد فرض عمر رضي الله عنه لكل من أزواج رسول الله ﷺ إثني عشر ألفاً، إلا صفية بنت حيي، وجويرية بنت الحارث رضي الله عنها فقد فرض لكل واحدة منهما ستة آلاف.
فأبت صفية وجويرية أن تقبلا ذلك.
______________________
1. رواه البخاري (4788)، ومسلم (1464).
2. “فتح الباري” (8/ 526).
3. “فتح الباري” (8/ 526)، و”تفسير ابن كثير” عند الآية الكريمة.
فقال عمر رضي الله عنه: إنما فرضتُ لهن بالهجرة، أي: إن زوجاته ﷺ غير صفية وجويرية كن من المهاجرات، وهذا سبل التفريق.
فقالتا: ما فرضتَ لهن الهجرة، إنما فرضت لهن لمكانتهن من رسول الله ﷺ، ولنا مثل مكانتهن.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله ﷺ كان يعدل بيننا.
فرجع عمر رضي الله عنه عن رأيه، وجعلهن سواء وعدل بينهن.