إسلام حمزة:
بعد ذلك اليوم المشهود في المسجد حيث أصاب المسلمين ما أصابهم وفي مقدمتهم أبو بكر رضي الله عنه، أراد أبو جهل أن يستمر في تصعيد تلك الحملة ضد المسلمين.
ويلتقي الخبيث بالرسول صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتسمع مولاة لعبد الله بن جدعان ما جرى وهي في مسكن لها.
ثم انصرف أبو جهل إلى ناد من أندية قريش عند الكعبة فجلس معهم.
ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب – عم رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن أقبل متوشحاً قومه راجعاً من قنص له – وكان صاحب قنص – وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة. وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة.
فلما مر بالمولاة – وقد رجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته – قالت: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم. وجده هاهنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكرهه. ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
وخرج حمزة مغضباً فلم يقف على أحد. ودخل المسجد ونظر إلى أبي جهل جالساً في القوم. فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة. ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد علي ذلك إن استطعت.
فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً (1).
وما نظن أن إسلام حمزة كان مرتجلاً نتيجة غضب مفاجئ أو عصبية جاهلية.
إن حمزة هو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو من ألصق الناس به. وإذا كان حديث محمد على كل لسان في مكة فليس من المعقول أن يكون على غير علم بما يحدث له يوماً بعد يوم ولا شك أن الإيمان قد استقر في قلبه قبل ذلك ولكن تأخره في إعلان ذلك ربما كان للتريث والتأني وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر. . .).
إن الإسلام كان قد أخذ مأخذه من نفس حمزة. وقد استقر الإيمان في عقله وقلبه، ولم تكن الحاجة ملحة قبل ذلك إلى إعلان إيمانه فلما كانت هذه الحادثة وجدت كلمات الإيمان المستقرة في الباطن سبيلها إلى الظاهر، وكان غضبه هو فرصة التعبير عما تكنه نفسه.
وربما تساءل بعضهم ألم يكن رسول الله قادراً على الرد على أبي جهل؟ لا شك أن شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من ذلك. ولكنه هل يتحول بعد الدعوة إلى مصارع. . . إنه أمر بالإعراض عن الجاهلين.
وحمزة حينما يتحول إلى صف المسلمين فذلك كسب كبير لا تعدله إلا خسارة قريش بفقدانه من صفها. إنه كما رأينا فتى قريش يحبه الجميع ويقدرونه ويجلونه. وإن إسلامه سيجعل الكثيرين يعيدون النظر في موقفهم.
والتحق حمزة بالمدرسة الأولى – دار الأرقم – ليعرف عن كتب تعاليم الدين الحنيف.
وكان إسلامه رضي الله عنه سنة ست من النبوة (2).
إسلام عمر بن الخطاب (3):
لم يمض كبير وقت على إسلام حمزة حتى أسلم عمر. وكان صنو أبي جهل في شدته على رسول الله وعلى المسلمين. فخرج يوماً متوشحاً سيفه، يريد رسول الله وبعض أصحابه وقد ذكروا له أنهم اجتمعوا في بيت عند الصفا، ولقيه في طريقه نعيم بن عبد الله النحام – رجل من بني عدي قد أسلم واستخفى بإسلامه – فقال: أين تريد يا عمر؟
فقال: أريد محمداً هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله.
قال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟.
قال: وأي أهل بيتي؟
قال: ختنك (4) وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما.
فرجع عمر عائداً إلى أخته وختنه – وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها {طه} يقرئهما إياها – فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع (5) لهم، وأخذت فاطمة الصحيفة فأخفتها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (6) التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً؛ قال: بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالا له: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان عمر كاتباً – قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقال له: يا أخي إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها {طه} فقرأها، فلما قرأ صدراً منها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
وسمع خباب ذلك فخرج إليه فقال له: يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهم أعز الإسلام بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب) (7)، فالله الله يا عمر، فقال عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه نفر من أصحابه.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته. قام رجل من الصحابة فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيف فرجع إلى رسول الله وهو فزع فقال: يا رسول الله هذا عمر متوشحاً السيف. فقال حمزة: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه. فقال صلى الله عليه وسلم: (ائذن له) فأذن له الرجل. ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال: (ما جاء بك يا ابن الخطاب فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة). فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر قد أسلم.
هذه إحدى روايتي إسلام عمر. على أن الرواية الثانية – فيما يظهر – كانت حادثة ممهدة لإسلام عمر. ولئن كانت هذه الرواية تبين لنا السبب المباشر لإعلان إسلامه، فإن الرواية الثانية توضح أن الإيمان بدأ يدب إلى قلبه، ويأخذ أبعاده في نفسه من قبل هذا، ولنستمع بهذا الصدد إلى أم عبد الله بنت أبي حثمة زوج عامر بن ربيعة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علي وهو على شركه – قالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا – قالت: فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله. قالت: فقلت: نعم والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهوتمونا، حتى يجعل الله مخرجاً. فقال: صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه – فيما أرى – خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك فقلت له: يا أبا عبد الله: لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم قال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب، قالت يأساً منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.
إن قول عامر في عمر كان نتيجة ما يعلمه من قسوته وشدته على المسلمين ولكن مطالعة أم عبد الله كانت صادقة فالعطف والحزن الذي أبداه عمر ما كان مسحة ظاهرة على وجهه ولكن آثاره كانت آخذة في أعماق نفسه، لقد تسلل الإيمان إلى نفسه من خلال ما رآه من ثبات المؤمنين وإصرارهم من خلال تعاليهم على كل الروابط في سبيل عقيدتهم.
ولننتقل إلى بعض ما ورد في الرواية الثانية. قال عمر. . . جئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله قائم يصلي. . . فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول. فقلت: لئن دنوت منه استمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثياب الكعبة، فجعلت أمشي رويداً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة. فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام. . .
إن الرغبة في السماع أولاً ثم البكاء ثانياً يعني أن آثار الإيمان قد استقرت طلائعها في نفسه فهو يتابع الطريق.
ويحسن بنا أن نقف قليلاً عند حادثة إسلام عمر:
- إن عمر – بعد إسلام حمزة – كان أحد الرجلين اللذين لهما خطرهما في قريش وإسلام واحد منهما سيكون له أثره في أضعاف قريش المسلمين من الجانب الآخر، وكانت دعوته صلى الله عليه وسلم اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب.
– وقال ابن مسعود يصف أثر ذلك: “إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً وإن إمارته كانت رحمة. ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه” (8).
وقال صهيب: لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منا (9).
– إن الحادثة تلقي الضوء على فقه الصحابة الحركي للدعوة. فقد رأى نعيم بن عبد الله النحام – عمر في حالة من الغضب – وعمر لا يعلم بإسلامه وهذا ما أعطى نعيماً حرية الحركة – فكان عليه أن يستوقفه فربما كانت غضبته تلك تتعلق بالمسلمين، وأجرى معه الحوار وعرف أن هدفه هو الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان عليه أن يغير اتجاه هذا السيل بعيداً عن رسول الله، إن مصاب الدعوة بأي فرد من أفرادها لن يعطل حركتها ولكن إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني إصابة القيادة. كان عليه أن يفشي سراً جانبياً من أسرار الدعوة في سبل الحرص على حياة قائدها هذا السر الذي بقي ثلاث سنين وعمر لا يدري به – إنه إسلام أخته. .
– وفي بيت فاطمة انتهت حدة الغضب فقد أوقع عمر بختنه سعيد وضرب فاطمة فإذا بالدم يسيل على وجهها. هذا الموقف. هو الذي كان يخشاه سعيد وتخشاه فاطمة أما وقد حدث فلا عليهما أن يعلنا إسلامهما في وجه عمر صريحاً. . نعم أسلمنا وآمنا. . فاصنع ما بدا لك. وسكت الغضب وحل مكانه الندم. . ولكن ألا يحسن أن يعرف ماذا كان يسمع. . واغتسل تنفيذاً لطلب أخته. . إنه الآن يتناول الصحيفة في وضع طبيعي يسيطر فيه العقل. . وتكون الهداية.
– وبلغ الخير قريشاً فأصابتها كآبة لم تصبها من قبل. وما إن دخل عمر المسجد حتى ثار القوم إليه فما برح يقاتلهم ويقتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، حتى أعيا فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فاحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل تركناها لكم أو تركتموها لنا. ولم ينهِ الموقف إلا دخول العاص بن وائل الذي أمرهم بتركه. .
– وبعد: إن الذي تلقى عمر وهو يطرق الباب على المسلمين، هو رسول الله من دون أصحابه. آخذاً بمجمع ثيابه معنفاً إياه – وهو لا يدري أن الإيمان قد دخل قلبه – حتى شهد شهادة الحق. . . وكبر رسول الله.
أليس في هذا ما يحني الرؤوس إجلالاً لهذا الرسول الكريم فهو في كل ميدان فارسه وفي كل حلبة سيدها.
– جاء في إحدى روايات إسلام عمر قوله: قلت: وما ذاك قال: أختك قد صبأت، فرجعت مغضباً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه. وقد ضم إلى زوج أختي رجلين فجئت حتى قرعت الباب (10). . .
وتستوقفنا هذه المعترضة في هذه الرواية، وهي ضم الرجل والرجلين إلى الرجل. . يصيبان من طعامه.
إن الظروف الحرجة لها تشريعها. وعلى الغني أن يحمل الفقير، وهذه أولية من أوليات هذا الدين. وهكذا تتغلب الدعوة منذ خطواتها الأولى على معضلة هامة طالما أثرت في سير الدعوات – تلك هي الجانب الاقتصادي – إن خباب بن الأرت – وهو أحد الرجلين الذين ضما إلى سعيد بن زيد – لم يكن قبل إسلامه أصابه بلاء الجاهلية التي وضعت المخططات لتكسيد تجارة التجار المسلمين والتضييق على كل فرد في مورد رزقه (11) فكان حاجة إلى المساعدة ريثما تمر الأزمة. . إنه منهج الإسلام.
لجوء قريش إلى المغريات:
بعد إسلام حمزة وعمر رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون وأن أمر رسول الله إلى منعة وقوة. وبدأ بعض الذين كانوا يخفون إسلامهم بإظهاره.
كانت قريش في ناديها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها. فتعطيه أيها شاء ويكف عنا. قالوا: بلى يا أبا الوليد.
وقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي: إنك منا حيث قد علمت من السطة (12) في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم. فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من أبائهم، فاسمع حتى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع) , قال: يا ابن أخي:
– إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.
– وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك.
– وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا.
– وإن كنا هذا الذي يأتيك رئياً (13) تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه.
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم. قال: (فاسمع مني)، قال: أفعل. فقال:
{حمٓ تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ كِتَٰبٌ فُصِّلَتْ ءَايَٰتُهُۥ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍۢ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِىٓ أَكِنَّةٍۢ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ. . .}
سورة فصلت: الآيات 1-5.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد سمعت فأنت وذاك).
فقام عتبة إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم (14).
إن عتبة وهو يعرض ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل أقوى الأسلحة مضاء فكثيراً ما خار الصناديد أمام المغريات. . . إنها الثروة والملك. . والشرف. . ولكن مضاءها في غير حملة العقيدة. إنها تصلح مع الذين يدعون الوطنية والقومية. . .
وكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاسماً، إن اختياره لهذه الآيات لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسة كان منها:
– إن هذا القرآن تنزيل من الله.
– بيان موقف الكافرين وإعراضهم.
– بيان مهمة الرسول وأنه بشر.
– بيان أن الخالق واحد هو الله وأنه خالق السماوات والأرض.
– بيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها. وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
استمع عتبة إلى هذه المعاني بكلمات الله الخالدة فكان لها أثرها الكبير في نفسه وعاد ينصح قومه ويشير عليهم بما فيه الخير لو استمعوا إليه. ولكن الذي قدم النصح إلى غيره لم يستفد منه لنفسه. إنه كان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى. سلك الإيمان طريقه إلى نفسه ولكن إصاخته إلى قومه وخوفه من قولهم فيه جعله لا يتعظ بما سمع.
لجوء قريش إلى اليهود:
كانت قريش تريد أي ممسك على الرسول صلى الله عليه وسلم تحرجه فيه، وقد باءت كل جهودها السابقة بالفشل، فرأت أن تستعين على ذلك باليهود باعتبارهم أهل كتاب، وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش.
وذهب النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى يثرب، وفي لقائهما مع اليهود كانت تعليمات أخبارهم، أن يسألوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب هو نبي وإلا فهو متقول (15).
ورجع الوفد إلى مكة، حاملاً في جعبته الأسئلة التي جاءت قريش لتطرحها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول كانت لهم قصة عجيبة، وعن رجل كان طوافاً، قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم عنه غداً – ولم يستثن (16) -) فانصرفوا عنه.
ومكث صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبريل، حتى وجد أهل مكة فرصتهم للنيل من الرسول الكريم وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشر ليلة قد أصبحنا منها وهو لا يخبرنا عما سألناه.
وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاء جبريل بسورة الكهف (17) فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من خبر الفتية، والرجل الطواف. وقول الله عز وجل:
{وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}
سورة الإسراء: الآية 85.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على إسلام القوم، باذلاً جهده ما استطاع في سبيل ذلك، وهم مدبرون، فلما سألوه أسئلتهم توقع أن إسلامهم سيعقب الإجابة عليها، فأجابهم مسرعاً بأنه سيعطيهم جواب ما سألوا غداً. . .
إن قريشاً لم تكن تريد الإيمان بحال من الأحوال، ولكنها فعلت ذلك؛ لعلها تجد الرسول وقد أقيمت عليه الحجة، بسبب عدم إجابته على أسئلتها، ولذا لم ينتح عن هذه الحادثة أن آمن آحد منهم، أو أنهم كفوا أذاهم عنه وعن المؤمنين.
وتضمنت السورة عتاباً رقيقاً للرسول صلى الله عليه وسلم على اهتمامه الكبير بهم في قوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفًا}
سورة الكهف: الآية 6.
كما تضمنت درساً عملياً هاماً، كابد منه الرسول صلى الله عليه وسلم ما كابد مدة أربعة عشر يوماً. . .
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ. .}
سورة الكهف: الآيتان 23- 24.
على أن هذا التأخر، كان حجة كبرى على قريش، إذ يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من عنده، وإنما هو وحي الله تعالى وأن مهمته التبليغ للرسالة.
- سيرة ابن هشام 1/ 291.
- شرح الزرقاني 1/ 256 نقلاً عن العتقي وابن الجوزي في تحديد الوقت.
- كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة البداية 3/ 79.
- الختن: الصهر، أو كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ.
- المخدع: البيت الصغير يكون داخل البيت الكبير
- الهينمة: صوت كلام لا يفهم.
- قال في شرح الزرقاني: رواه الترمذي عن ابن عباس. ورواه أحمد والترمذي – وقال: حسن صحيح – وابن سعد والبيهقي عن ابن عمر، رفعه بلفظ: (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب) 1/ 272.
- سيرة ابن هشام 1/ 342، ورواه ابن أبي شيبة والطبراني [شرح الزرقاني على المواهب 1/ 277].
- رواه ابن سعد [شرح الزرقاني 1/ 277].
- شرح الزرقاني 1/ 273.
- انظر تفصيل ذلك في بحث سابق تحت عنوان: قريش في مفاوضة عجيبة. ص: 72.
- السطة: الشرف.
- الرئي: ما يتراءى للإنسان من الجن.
- ابن هشام 1/ 293.
- ابن هشام 1/ 300.
- أي لم يقل إن شاء الله.
- في رواية ابن هشام ما يوهم أن ذكر الروح ورد في سورة الكهف حيث قال: ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبة على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الله: الفتية والرجل الطواف اهـ. ولم يوضح أن ذكر الروح ورد في سورة الإسراء.