القائمة الرئيسية

مرضه ﷺ ووفاته

كان ﷺ يشعر بدنو أجله، وكانت بعض أحاديثه تشعر بعض الصحابة رضي الله عنهم بذلك، فقد رأينا قوله لمعاذ حيث بعثه إلى اليمن: (يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري)، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

_______________________

1- البداية 5/ 100 من حديث الإمام أحمد.

وهذا لا يثبت فعمر هو الذي أوصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك الذين كرهوا قيادة أسامة، وصعد الرسول صلى الله عليه وسلم المنبر بناء على ذلك وقال ما قال مما ذكر قبل قليل، فكيف يقبل أن يكون وسيطاً في أمر كهذا؟

ثم كانت بعد ذلك جدة الوداع، وكانت فيها الدلائل كثيرة، نزل قوله تعالى:

{ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا ۚ}

ثم نزل قوله تعالى:

{إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ. . .}

كما كان ﷺ يردد قوله:

(خُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا)

وكانت خطبه فيها تشير إلى ذلك، ومنها قوله ﷺ:

(أَيُّهَا النَّاسُ: اسمعوا قولي فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا بِهَذَا المَوقِف أبَداً)

وقال ﷺ لابنته فاطمة: (إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني به العام مرتين، وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي) (1).

 كان ذلك شعور النبوة الصادق، فقد ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه في آخر صفر أو أول ربيع، فكان أول ما ابتدئ به أنه خرج إلى بقيع الغرقد، من جوف الليل، فاستغفر لهم (2)، ثم رجع إلى أهله فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.

_______________________

1- متفق عليه (خ 3623، م 2450).

2- وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: (إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا) قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب عزوة أحد.

 

عن أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ: (يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي)، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى). قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: (يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ قَالَ قُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ قَالَ: (لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ) ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ” .

(1)

وأخذ المرض يشتد ورسول الله ﷺ  يتنقل بين بيوت أزواجه، وكان يسأل في مرضه الذي مات فيه، يقول: (أين أنا غدا؟ أين أنا غداً؟) (2)، قالت عائشة: “لما ثقل رسول الله ﷺ  واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض” (3)، وكان الرجلان هما: عباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.

 واشتد به المرض حتى منعه من الخروج للصلاة، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر. قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله ﷺ ، قالت: فراجعته مرتين أو ثلاثاً، فقال: (ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف) (4).

 وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن زمعة قال: لما استعز (5) برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين، ودعا بلال للصلاة، فقال (مروا من يصلي بالناس) قال: فخرجت فإذا عمر في الناس –

_______________________

1- سيرة ابن هشام 2/ 642.

2- متفق عليه (خ 1389، م 2443).

3- متفق عليه (خ 665، م 418).

4- رواه مسلم (418).

5- يقال: استعز بالمريض، إذ غُلب على نفسه من شدة المرض.

وكان أبو بكر غائباً – فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، قال: فقام فلما كبر عمر، وسمع رسول الله ﷺ  صوته – وكان عمر رجلاً مجهراً – فقال رسول الله: (فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون). قال: فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.

 وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: “ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين امرتني إلا أن رسول الله أمرني بذلك، ولولا ذلك ما صليت. قال: قلت: والله ما أمرني رسول الله ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة” (1).

 وصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله ﷺ  وجد خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر وأمرهما فأجلساه إلى جنبه فجعل أبو بكر يصلي قائماً ورسول الله ﷺ  يصلي قاعدا (2). وفي رواية: فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو قائم والناس يصلون بصلاة أبي بكر، ورسول الله ﷺ  قاعد.

 قال أنس: آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ  مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر (3).

 ولعل هذه الصلاة هي التي أشارت إليها عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري، قالت: “لما دخل بيتي واشتد به وجعه قال: (هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس) فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي ﷺ  ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. قالت: ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم” (4).

_______________________

1- البداية 5/ 232، وقال ابن كثير: وهكذا رواه أبو داود.

2- رواه البخاري ومسلم (خ 713، م 418).

3- البداية 5/ 234 قال ابن كثير: وإسناده جيد على شرط الصحيح.

4- البخاري، المغازي، باب مرضه ﷺ  رقم (4442).

 وخطب يومها ﷺ  ما رواه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ

خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّاسَ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ) (2).

 ومضت أيام ثلاثة لم يخرج النبي ﷺ  فيها (3) “وفي صلاة الفجر من يوم الأثنين – وأبو بكر يصلي لهم – لم يفجأهم إلا رسول الله ﷺ  قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله ﷺ  يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله ﷺ ، فأشار إليهم بيده رسول الله ﷺ  أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر” (4).

 وكان ذلك آخر عهد الناس به ﷺ ، وكانت تلك النظرات الأخيرة التي ودع فيها ﷺ  أصحابه، وقد وصفهم بين يدي الله تعالى يؤدون الصلاة، يجمعهم إمام واحد، تربطهم أخوة الإيمان. . . لقد سرته هذه النتيجة التي توصل إليها، فما هي إلا الدليل القاطع على أنه ﷺ  أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة، فتبسم وضحك وأسدل الستر على صورتين رائعتين، صورة الرضى منه ﷺ  وصورة المسلمين وقد صفوا للصلاة جماعة واحدة، وكأن لسان حاله ﷺ  يقول لهم: (تركتكم على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك).

_______________________

1- قال في فتح الباري: وفي حديث أبي سعيد (في مرضه الذي مات فيه).

2- البخاري (466).

3- متفق عليه (خ 681، م 419).

4- متفق عليه (خ 680، م 419).

 فرح المسلمون بما رأوا من رسول الله ﷺ وتوقعوا أن يكون قد برئ من مرضه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه عليه ﷺ  حين فرغ من الصلاة، وقال لعائشة: ما أرى رسول الله ﷺ إلا وقد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة – يعني إحدى زوجتيه – وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة، فركب على فرس وذهب إلى منزله (1).

 وتوفي ﷺ  حين اشتد الضحى من ذلك اليوم،

قالت عَائِشَةَ:

“إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ فَلَيَّنْتُهُ فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ يَشُكُّ عُمَرُ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ” .

(2)

 

عَنْ أَنَسٍ قَالَ:

“لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَام وَا كَرْبَ أَبَاهُ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ”

(3).

_______________________

1- البداية 5/ 244.

2- البخاري، المغازي باب مرضه ﷺ رقم (4449).

3- أخرجه البخاري رقم (4462).

 ووصل نبأ الوفاة إلى الناس فكانوا بين مصدق ومكذب، وأظهر المنافقون فرحهم، وقام عمر بن الخطاب ينفي موت رسول الله ﷺ  ويقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله ﷺ  قد توفي، وإن رسول الله ﷺ  ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله ﷺ  كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله ﷺ  مات (1).

 وذهب سالم بن عبيد رواء الصديق إلى السنح فأخبره الخبر (2)، فجاء على فرسه من مسكنه بالسنح “حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله ﷺ  وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين. أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها” (3).

 “وخرج – عمر يكلم الناس – فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً ﷺ  فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله:

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ}

(4)

، وقال – ابن عباس -: والله بكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت (5) حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي ﷺ  قد مات” (6).

 وعاد إلى الناس صوابهم وعرفوا أن رسول الله ﷺ  قد مات.

_______________________

1- سيرة ابن هشام 2/ 655، وبعضها في البخاري (3667).

2- البداية 5/ 244.

3- البخاري، المغازي باب مرضه ﷺ  (1241).

4- سورة آل عمران: الآية 144.

5- أي هلكت.

6- البخاري، المغازي، باب مرضه ﷺ  (4454).

وانحاز الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة يريدون بيعة سعد بن عبادة، وبلغ الأمر أبا بكر والمهاجرين فانطلق إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وبعد مداولة في الأمر تمت البيعة لأبي بكر في يوم الإثنين ثم في صبيحة يوم الثلاثاء كانت البيعة العامة من المهاجرين والأنصار، وكان ذلك قبل تجهيز الرسول ﷺ .

وفي يوم الثلاثاء تم غسل رسول الله ﷺ  وتجهيزه، وكان الذين باشروا ذلك هم علي والعباس والفضل وقثم – ابناه – وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله ﷺ .

 ورفع فراشه، حيث حفر له تحته، لقول أبي بكر رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله ﷺ  يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض)، ثم دخل الناس على رسول الله ﷺ  يصلون عليه أرسالاً، دخل الرجال، حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله ﷺ  أحد (1).

ثم دفن ﷺ  من وسط الليل ليلة الأربعاء.

قالت فاطمة بنت رسول الله ﷺ  رضي الله عنها لأنس: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ  التراب؟ (2).

روى الإمام أحمد عن أنس قَالَ: “لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ  الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ وَلَمَّا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ  الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا” (3).

_______________________

1- سيرة ابن هشام 2/ 663.

2- البخاري، المغازي باب مرضه ﷺ  (4462).

3- البداية 5/ 273 قال ابن كثير: وإسناده على شرط الصحيحين.

وأما تركته ﷺ  فقد ورد بتحديدها حديثان في صحيح البخاري رضي الله عنه.

 فقد روى عن عمرو بن الحارث قال: “ما ترك رسول الله ﷺ  ديناراً ولا درهماً ولا عبداً، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة” (1).

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:

تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ” (2).

وأما عمره الذي توفي عنه فقد حددته عائشة رضي الله عنها بقولها: “إن رسول الله ﷺ  توفي وهو ابن ثلاث وستين” (3).

وبعد: لو أراد القارئ الوقوف على هذه النصوص لطال تأمله ولكانت وحدها بما تحمله من معان كافية لتكون موضوعاً مستقلاً، ولكنه مما ينبغي الإشارة إليه أن الرسول ﷺ  لم يستخلف أحداً، وإنما كانت هناك إشارات واضحة توجه المؤمنين إلى من ينبغي استخلافه، منها قوله ﷺ  حينما قدم عمر للصلاة: (يأبى الله ذلك والمسلمون)، ومنها أنه أمرهم بسد الأبواب اللافظة إلى المسجد إلا باب أبي بكر.

 وكان ذلك من الحجج القوية التي أدلى بها عمر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة حينما قال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله ﷺ  قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر (4).

_______________________

1- البخاري، المغازي باب مرضه ﷺ  (2739).

2- البخاري، المغازي، باب وفاته ﷺ  (2916).

3- متفق عليه (خ 4466، م 2349).

4- البداية 5/ 246 – 247 من رواية الإمام أحمد والنسائي.

إن الإمامة في الصلاة تعني إمامة الناس أيضاً في شؤونهم المادية وقد ظل هذا التلازم بين إمرة المؤمنين وبين إمامتهم في الصلاة طيلة مدة الخلافة الراشدة، وكان الفصل بينهما فيما بعد أمارة البعد عن منهج الله تعالى فصلاة الخليفة إماماً بالمسلمين تعني لقاءه بهم خمس مرات لا تحول بينه وبينهم الحواجز، كما تعني معرفة أحوالهم عن كثب وتعني بكلمو مختصرة أنه يعيش حياة الناس، فيكون على صلة بأفراحهم وأتراحهم، يعرف من أمورهم صغيرها وكبيرها، وعندها يكون أمام مسؤولياته التي أوكلت إليه.

مواضيع ذات صلة