كان رسول الله ﷺ أعظم رجل فاعل في التاريخ، وكانت الأحداث عظيمها وصغيرها ترجع إليه ليعطي رأيه فيها، وكانت بيوت أزواجه قريباً من المسجد، مما جعلهن قريباً من مسرح العمليات – إن صح التعبير – فكن على علم بالأمور أول فأول.
وينقل لنا الإمام مسلم صورة من اهتمامهن ومشاركتهن، فها هي أم سلمة رضي الله عنها في بيتها، تقول:
“بينما الجارية تمشطني، فسمعت رسول الله ﷺ يقول: (أيها الناس) فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء. فقلت: إني من الناس. .” (1).
وهكذا تسرع رضي الله عنها لتشارك، وهي لا تعلم ما الذي سوف تسمعه، ولكنها سمعته ﷺ يقول: (أيها الناس) وهي رضي الله عنها من الناس. وهذا هو الفقه.
وكان ﷺ إذا سافر أقرع بين نسائه، فمن خرج سهمها انطلقت معه في سفره، وربما أخرج معه أكثر من واحدة بعض الأحيان، الأمر الذي جعلهن على صلة مستمرة بالواقع العام، في حال المقام وفي السفر، في السلم وفي الحرب.
وقد كانت هذه المشاركات فاعلة في كثير من الأحيان، ولنذكر بعض الأمثلة على ذلك:
كانت خديجة رضي الله عنها سنداً للرسول ﷺ منذ اليوم الأول الذي نزل عليه والوحي فيه، فكانت تقف إلى جانبه وتؤيده، وكان مركزها الاجتماعي في مكة يساعدها على ذلك، فكانت في هذا الجانب لا تقل عن عمه أبي طالب، وقد شاركته دخول الشعب وبذلت من أموالها الكثير في سبيل التخفيف عن المسلمين في ذلك الحصار الاقتصادي.
وقد شعر ﷺ بذلك الفراغ الذي تركته بعد موتها – هي وعمه أبو طالب – حتى سمي ذلك العام عام الحزن.
______________________
1. أخرجه مسلم (2295).
وينقل لنا أنس رضي الله عنه مشاهد مما حدث يوم أحد ومن ذلك. .
“وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ (1) سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ (2) الْقِرَبَ وَقَالَ غَيْرُهُ تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ. .” (3).
وقد سبق في ترجمة أم سلمة رضي الله عنها، ذكر مشورتها على النبي ﷺ حينما أمر أصحابه بالحلق والتحلل، فلم يفعلوا، وكان ما أشارت به فيه الخير، الذي رد الصحابة إلى صوابهم فسارعوا إلى تنفيذ الأمر.
وفي حجة الوداع يدخل ﷺ على عائشة رضي الله عنها وهو غضبان ليذكر لها تردد الناس فيما أمرهم به.
قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ فَقُلْتُ مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: (أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ (4)؟ وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ ثُمَّ أَحِلُّ كَمَا حَلُّوا) (5).
إنه ﷺ أصابه هم عظيم بسبب عدم مبادرة أصحابه لتنفيذ ما أمرهم به، فلم يجد إلا أن يدخل على عائشة يخفف من همه بذكر ما حدث.
وعندما كان ﷺ في الطريق إلى فتح مكة، لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، وابن عمته عبدالله بن أبي أمية. فالتمسا الدخول عليه ﷺ فلم يقبل ذلك.
______________________
1. خدم: جمع خدمه، وهي الخلخال.
2. تنقزان: تسرعان المشي كالهرولة، والنقز/ الوثب.
3. متفق عليه (خ 4064، م 1811).
4. أمر رسول الله ﷺ كل من لم يسق معه الهدي: أن يطوف ويسعى ويتحلل من إحرامه ويجعلها عمرة، وهو ما يعرف بالتمتع، وكان شيئاً جديداً بالنسبة لهم فتباطؤوا قليلاً بالامتثال.
5. أخرجه مسلم في كتاب الحج (130).
فكلمته أم سلمة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك!!
قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي (1)، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي ما قال (2).
فقالت: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك.
فلما خرج الخبر إليهما بذلك، قال أبو سفيان – ومعه ابن له – والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لتذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. .
فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ رق لهما ثم أذن لهما فدخلا عليه فأسلما.
وهكذا كانت أم سلمة عاملاً من عوامل الخير في التمهيد لرضا رسول الله ﷺ.
تلك نماذج من مشاركات أمهات المؤمنين رضي الله عنهن في الأمور العامة (3).
______________________
1.كان شاعراً يهجو رسول الله ﷺ، وقد أجابه عنه حسان بن ثابت كثيراً.
2. هو ابن عمته عاتكة، وهو أخو أم سلمة لأبيها، وكان قوله: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلماً إلى السماء، فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك “شرح المواهب” (2/ 301).
3. بعض هذا الفصل من كتاب “من معين الشمائل” للمؤلف (ص 79 – 81).