على أن أسباب عدم الإذن بالقتال في مكة تكاد تكون واضحة:
- فالمجتمع في مكة يختلط فيه المسلم بالمشرك، وما تزال وشائج العصبية والقبيلة قائمة في نفوس المشركين تجاه أقربائهم من المسلمين، وفي مثل هذا الجو لو سمح بالقتال لنشأت الحروب بين القبائل، ولم يعد هناك مجال لإسماع صوت الدعوة، الأمر الذي يؤدي بها، بين ضوضاء الثأر وبين نزيف الدماء.
- إن أبا بكر لما جهر بالدعوة في المسجد. . قام إليه عتبة بن ربيعة فضربه ضرباً شديداً فلما أخبر بنو تميم – قوم أبي بكر – جاؤوا سراعاً. فحملوا أبا بكر إلى منزله – وهم لا يشكون في موته – ثم رجعوا إلى المسجد ليعلنوا مقسمين، لئن مات أبو بكر ليقتلن عتبة بن ربيعة (1). أرأيت لو قتل عتبة بعدها فهل يسكت قومه. أليست الحروب الجاهلية من مثل هذا كانت تنطلق. . وأين يبقى مجال لإسماع كلمة الدعوة؟
_______________________
(1) إن هذا لم يحدث تكريماً لأبي بكر وإنما انطلاقاً من القيم الجاهلية. إن عدم اهتمام القبيلة بأفرادها ودفاعها عنهم يعتبر وصمة عار وسبة على مدى الأيام ولذلك كان المدح للقبيلة التي تلبي أفرادها:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
- وسبب آخر: هو قلة عدد المسلمين. وقد استشعر هذا الجانب عمر رضي الله عنه في اليوم الذي أعلن فيه إسلامه في المسجد الحرام، فقاموا يضربونه ويضربهم، وقال لهم يومئذ: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل تركناها لكم أو تركتموها لنا (1) – يعني مكة -.
وهكذا يأتي الإذن بالقتال في الوقت المناسب، وقد أصبح للمسلمين دار، فاصلوا من خلالها الجاهلية كلها، وقد زالت الأسباب والمبررات التي كانت تحول دون نشوب القتال في مكة. . . ذلك تقدير العزيز العليم.
_______________________
(1) ابن هشام 1/ 349.