القائمة الرئيسية

مِنَ المولد إلى البِعثَة

خرج عبد المطلب – وهو سيد مكة والرجل المرموق فيها – متجهاً إلى دار وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب – وهو يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً – ليخطب ابنته آمنة، لابنه عبد الله، وآمنة يومئذ هي أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً.

وتم العقد. . . وحملت آمنة. . . ثم لم يلبث عبد الله أن توفي، ومرت أشهر الحمل، ووضعت آمنة حملها، وكان الوليد محمداً ﷺ.

النسب الطاهر:

محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. . ابن معد بن عدنان.

وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وهكذا ينتهي نسبه ﷺ من جهة أبيه؛ ومن جهة أمه إلى كلاب بن مرة، فهو خيار من خيار، ولعل في هذا حكمة بالغة تنفي كل مطعن في دعوته، من حيث نسبه وأصالته، ولذا لما سئل أبو سفيان من قبل هرقل: كيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب (1). وأبو سفيان يومئذ يمثل قيادة العداء في مكة لرسول الله ﷺ.

______________________

(1) هذه رواية البخاري برقم (7)، وفي رواية ابن إسحاق: محضاً من أوسطنا نسباً.

 


 

ولعل من حكمة الله تعالى أن يكون كذلك حتى تكون دعوته إلى المساواة والعدل منبعثة من المنهج الذي جاء به، قائمة على أسس ثابتة، وليست رد فعل لحالة نفسية، أو واقع اجتماعي سيئ. فلو لم يكن محمد بن عبد الله في هذا الموضع الرفيع نسباً، لقيل إنه يطالب بما افتقده ليرد اعتباره الاجتماعي.

ولقد رأينا كثيراً من أصحاب الدعوات المادية. . . كانت مذاهبهم صدى ورد فعل لواقع عاشوه، ويكفي أن نعرف – مثلاً على ذلك – كيف كانت حياة ماركس لنعرف المذهب الذي دعا إليه (1)، وما سميت هذه المذاهب ثورات إلا لأنها ردود فعل.

الولادة:

ولد رسول الله ﷺ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل سنة سبعين وخمسمائة للميلاد. ولما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب: أنه قد ولد لك غلام، فأتاه ونظر إليه، فرحاً به، وسماه محمداً.

كفالة جده:

وإذ ولد ﷺ يتيماً، فقد كان في كفالة جده، الذي كان حفياً به، عطوفاً عليه، وقد جل من نفس جده المنزلة التي لم تكن لأولاده، فكان لا يفارقه، وما كان أحد يجلس على فراش عبد المطلب من أبنائه إلا رسول الله ﷺ.

_______________________

(1) ولد ماركس سنة 1233هـ من أسرة يهودية، وانتقل أبوه إلى النصرانية لأسباب مادية، ولم يكن ماركس حميد السيرة في دراسته الجامعية، وفشل في حياته العاطفية، إذ أحب فتاة من طبقة رفيعة، فعارض أهلها من زواجها منه لاعتبارات طبقية. وفي مبارزة له بالسيف مع أحد أعضاء نادي الشعراء في بون – وكان من الأغنياء – تفوق عليه خصمه وجرحه في حاجبه، وكانت نقمته عارمة على الأغنياء، بسبب فقر أسرته، مما جعله يردد دائماً مقطوعة شيكسبير – الشاعر الإنكليزي-: أيها الذهب الثمين البراق، إنك تصير الأبيض أسوداً والقبيح جميلاً. . . والجبان باسلاً. ومن هذا الواقع الاجتماعي كان مذهبه – الشيوعية – حقداً على الإنسان.


 

الرضاعة:

ظل الوليد في رعاية أمه، إلى أن جاء نسوة من بني سعد يلتمسن الرضعاء. تقول حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية: فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله ﷺ فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم؟ وما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً. والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. . فذهبت فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره (1).

ولقد سعدت حليمة باصطحابه، وعمها الخير، ورأت من بركته ما جعلها حريصة – بعد ذلك – على بقائه عندها.

ورواية حليمة هذه، تدل دلالة واضحة على أن ولادته ﷺ ونظرة الناس إليه – بعد ذلك – كانت أمراً عادياً، فليس فيه ما يميزه على غيره. إذ ما كان أحد يدري يومئذ أن المولود هو رسول الله (2).

وفاة أمه ثم جده:

واستقر الطفل، بعد انتهاء مدة الرضاع، عند أمه ترعاه، ويحوطه جده بعنايته، وفي السادسة من عمره، خرجت أمه لزيارة أخواله (3)

_______________________

(1) سيرة ابن هشام 1/ 163.

(2) هذا لا يعني عدم وجود بشائر وإرهاصات تعلن إظلال زمانه، ولكن المقصود: أنه لم يكن أحد يعرف أنه هو النبي المنتظر.

(3) كان هاشم بن عبد مناف قدم يثرب وتزوج سلمى بنت عمرو، أحد بني النجار، فولدت له شيبة الذي عرف فيما بعد، بعبد المطلب، فبنو النجار هم أخوال عبد المطلب جد النبي ﷺ (ابن هشام 1/ 137).


من بني عدي بن النجار في يثرب، ولكنها ماتت في طريق العودة، بالأبواء (1) بين مكة والمدينة.

ولم تطل حياة عبد المطلب بعد ذلك، إذ توفي بعد سنتين حيث كان عمره ﷺ ثماني سنوات.

كفالة أبي طالب:

ويبدو أن عبد المطلب لما أحس بدنو أجله، أوصى ابنه أبا طالب (2) برعاية ابن أخيه. وذلك لأن عبد الله وأبا طالب أخوان لأم وأب (3)، وأمهما فاطمة بنت عمرو الخزومية. فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله بعد جده.

رعي الغنم:

ولما اشتد عوده ﷺ رعي الغنم، حتى لا يكون عالة على عمه، وتلك مهنة الأنبياء عليهم السلام في بعض أيام حياتهم، وقد قال ﷺ

 

[(مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: (نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ (4) لِأَهْلِ مَكَّةَ)] (5).

 

_______________________

(1) الأبواء: وادٍ من أودية الحجاز التهامية يلتقي فيه وادياً الفرع والقاحة، فيتكون منهما وينحدر إلى البحر ماراً ببلدة مستورة ثم يبحر. ا هـ. (معجم المعالم الجغرافية).

(2) واسمه عبد مناف.

(3) يشاركهم في ذلك الزبير بن عبد المطلب وجميع بنات عبد المطلب ما عدا صفية.

(4) أورد صاحب الفتح قولين للعلماء في معنى قراريط. الأول: القيراط جزء من الدينار أو الدرهم. والثاني: أن قراريط اسم موضع بمكة. ويرى أبو زهرة رحمه الله في كتابه خاتم النبيين. أنها: حصة من اللبن، فهو يرعاها على أن يكون له حصته من لبنها.

(5) صحيح البخاري. كتاب الإجارة برقم (2262).

 


 

سمات مميزة:

وشب محمد بن عبد الله، في رعاية الله، محفوظاً من أقذار الجاهلية متحلياً بكل صفات الفضيلة، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً. . . كما كان أكرمهم حسباً، كل هذا جُمع بكلمة واحدة أطلقت عليه هي: “الأمين” فكان يقال: جاء الأمين وذهب الأمين.

ولقد حضر ميادين الرجولة، وهو لم يبلغ بعد سن الرجال، فها هو يحضر حرب الفجار (1) ولما يبلغ الخامسة عشر من العمر، وقال: (كنت أنبل (2) على أعمامي) (3).

كما ساهم في إقامة الفضيلة مع الكهول، وهو لم يتجاوز العشرين من العمر. فكان أحد الذين شهدوا إبراهم حلف الفضول (4).

_______________________

(1) الفجار – بالكسر – بمعنى المفاجرة.

وسميت كذلك لأنها قامت في الشهر الحرام. وكانت بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان. وشهد رسول الله ﷺ بعض أيامها، أخرجه أعمامه معهم (سيرة ابن هشام 1/ 184 – 186).

(2) أنبل: قال ابن هشام: أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.

(3) سيرة ابن هشام 1/ 186.

(4) وسببه: أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ثم حبس عنه ثمنها، فاستعدى عليه الأحلاف فأبوا أن يعينوه، فلما رأى الشر، أوفى على أبي قبيس – وقريش في أنديتهم – وأنشد:

يا آل فهــر لمظلــوم بضاعتــه                        ببطن مكــة نائي الدار والنفـــر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته                        يا للرجال، وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمــن تمت كرامتــه                         ولا حــرام لئوب الفاجــر الغـدر

 


فقال الزبير بن عبد المطلب – عم النبي ﷺ – وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جُدعان في شهر ذي القعدة – وهو من الأشهر الحرم – فتعاقدوا بالله ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه. ثم أخذوا للرجل حقه من العاص بن وائل. عن “البداية والنهاية” 2/ 291.

حيث تعاقد المجتمعون على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. وقال فيما بعد: (لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت) (1).

كما كان بعيداً عن الأصنام، شديد الكره لها منذ صغره، وقد رد على الراهب بحيرى حينما سأله باللات والعزى بقوله: لا تسألني باللات والعزى فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما.

كل هذا، وغيره من صفات الفضيلة، جعله فتى قريش، الذي اتجهت إليه الأنظار، وتناقل الناس حديث سلوكه وأخلاقه.

زواجه ﷺ بالسيدة خديجة:

كانت خديجة بنت خويلد (2) امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربنهم إياه بشيء تجعله لهم. فلما بلغها عن محمد ﷺ ما بلغها، من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فقبل منها وخرج في مالها وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.

وقد أتم المهمة وعاد إلى مكة يحمل البضاعة وفيها الربح الوفير.

وقصَّ ميسرة على خديجة ما شاهده، من حسن المعاملة والأمامة مما جعلها ترغب فيه زوجاً لها – وهي التي عزت على الرجال – فعرضت عليه نفسها. وسواء أكان هذا العرض بواسطة أم بدون واسطة فقد تم الأمر، حيث خرج ومعه عمه حمزة بن عبد المطلب – وفي رواية أبو طالب – حتى دخل على عمها عمرو بن أسد فخطبها إليه فزوجه إياها.

_______________________

(1) سيرة ابن هشام 1/ 134.

(2) خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، من بني أسد من الذؤابة في قريش نسباً، وانظر ترجمتها في: “من معين الشمائل” ص 41.

 


وأصدقها ﷺ عشرين بكرة (1). وكانت أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

وكان عمره يومئذ خمساً وعشرين سنة بينما كانت خديجة في الأربعين من العمر (2).

أكرم من والد:

كان زيد بن حارثة غلاماً لخديجة فوهبته لرسول الله ﷺ لما تزوجها فأعتقه ﷺ. وبقي زيد عند رسول الله ﷺ إلى أن جاء أبوه حارثة وعمه يطلبان فداءه، فقالا للنبي ﷺ: يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عبدك، فأحسن لنا في فدائه. فقال: (فهل غير ذلك؟) فقالا: وما هو؟ قال: (أدعوه فأخيره فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي اختار على من اختارني) قال: قد زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه فقال: (هل تعرف هؤلاء؟) قال: نعم أبي وعمي قال: (فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك. فاخترني أو اخترهما). فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان أبي وعمي. فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية؟ وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم. قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً. فلما رأى رسول رسول الله ﷺ ذلك خرج إلى الحجر فقال: (أشهدكم أن زيداً ابني أرثه ويرثني). فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا. ودعي بعدها زيد بن محمد حتى جاء الإسلام فنزلت:

{ٱدْعُوهُمْ لِآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ }

(3)

فدعي زيد بن حارثة (4).

_______________________

(1) البكر: الفتي من الإبل، والأنثى: بكرة.

(2) وكانت قد تزوجت قبله، عليه السلام أبا هالة بن زرارة التميمي، ومات عنها، وقد ولدت له هنداً وهالة. وكلاهما له صحبة.

(3) سورة الأحزاب: الآية 5.

(4) هو عربي أصيل يرجع نسبه إلى كلب بن وبره وأمه سعدى بنت ثعلبة من طيء وكانت خرجت بزيد لتزور أهلها. فأصابته خيل من بني القيس بن جسر فباعوه بسوق مسياشه – وهو من أسواق العرب – وهو يومئذ ابن ثمانية أعوام (الروض الأنف 1/ 286).

 


لم يكن يتوقع حارثة من ابنه ذلك الاختيار بل كان يتوقع أن يكون يوماً من أيام الأعياد في حياته حيث يعود إلى ذويه وأهله الذين تركهم مكرهاً. . ولكن تلك المعاملة وذلك السلوك الذي رآه من رسول الله كان فوق كل تقدير. نتكلم هذا ومحمد ﷺ لم يصبح رسولاً بعد، إن اختيار زيد رسول الله وإيثاره البقاء عنده على العودة إلى أهله وديار قومه في وقت يعد انفصال الفرد عن قبيلته ضياعاً له. وفي سن يحرص المرء فيها أن يكون في رعاية ذويه لدليل على تلك الأخلاق العالية والصفات الحميدة التي تجلت في سلوكه ﷺ مع كل الناس ولعل قرب زيد منه جعله أكثر تقديراً ومعرفة لهذه الصفات. الأمر الذي جعله يستمسك بالبقاء عنده، واجداً في ظله كل ما يتطلبه من عطف الأب وكرمه وحنانه بل وما هو أكثر من هذا.

 

وإزاء هذا التقدير أعلن رسول الله ﷺ على طريقة العرب قبل الإسلام في التبني، تبنيه لزيد من باب التكريم والتقدير لتلك المشاعر. . إلى أن جاء الإسلام. . فدعي لأبيه. .

بناء الكعبة:

في الخامسة والثلاثين من عمره ﷺ اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة – بسبب ما أصابها من وهن وخوفاً عليها من السيول. وقد أعدوا لذلك عدته، وجزأت قريش الكعبة، فكان كل جانب منها لفريق منهم، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة. .

ثم بنوها حتى بلغ البنيان الحجر الأسود فاختصموا فيه: كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه. . حتى تحالفوا وأعدوا للقتال. . وقرب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما وتعاهدوا – هم وبنو عدي بن كعب – على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم فسموا “لعقة الدم” ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً.

 

ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا، واقترح أسن القوم يومئذ، أبو أمية بن المغيرة (1)، أن يجعلوا أول داخل إلى المسجد حكماً يقضي بينهم. واتفقوا على ذلك. فكان أول من دخل رسول الله ﷺ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به، هذا محمد، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر. قال ﷺ: هلم إلي ثوباً؛ فأتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه ﷺ بيده ثم بنى عليه (2).

بهذه البساطة انتهت معضلة غمست الأيدي بالدم من أجلها. . انتهت والجميع راضون كل الرضى. وعاد الناس إلى متابعة العمل وإكمال البناء.

ولقد يظن أن هذا الحل في غاية السهولة: يمكن أن يهتدي إليه كل إنسان.

ولكنا إذا تذكرنا أن قريشاً بعقلائها وأصحاب الرأي فيها كانت تشارك في البناء وأنهم جميعاً اشتركوا في إنشاء المشكلة. وأنه لم يدر يخلد أحد هذا الحل رغم أن السيوف كانت قد سلت من   أغمادها. . علمنا رجاحة العقل والفطانة والذكاء تلك الصفات التي كانت بعض صفاته ﷺ.

_______________________

(1) هو والد أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها.

(2) سيرة ابن هشام 1/ 196 – 197.

 


 

التحنث في غار حراء:

قالت عائشة رضي الله عنها:

 

“أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ من الوحي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. وَكَانَ يَأتي حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ – وهو التَّعَبُّدُ – اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّده بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجَاءَهُ الْمَلَكُ. .”

(1).

وواضح من النص أن المدة التي سبقت نزول الملك اتسمت بظاهرتين إحداهما: تصديق الواقع لما يراه في نومه. والثانية: التحنث في غار حراء بعيداً عن الناس. بل إن ذلك حُبب إليه، كما ورد ذلك في رواية ابن هشام: وحبب الله تعالى إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده (2).

ونتساءل عن طبيعة ذلك التحنث في تلك المدة؟ ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إنه تفكر فيما حوله، في واقع الناس وما آل إليه حالهم من عبادة للأصنام. . وظلم. . وعصبية وقطع للرحم، نستشف ذلك من قول السيدة خديجة وهي تصف سلوكه ﷺ الذي كان محاولة منه لتعديل الواقع المر الذي مُلئت به دنيا الناس يومئذ، حيث قالت: “فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ (3) وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ (4)” (5).

فهو التفكير في الكيفية التي يمكن أن تسود فيها هذه المعاني حياة الناس.

وربما فكر في ما تبقى من شريعة إبراهيم، الذي كان يتمثل في مناسك الحج، وحتى هذه المناسك اعتراها التبديل والتحريف ودخلتها الأوهام حتى أضحت وسيلة يتعالى فيها بعض الناس على بعضهم الآخر، وما بدعة (الحمس) (6) إلا التعبير الصادق عن ذلك.

_______________________

(1) متفق عليه (خ 3، م 160).

(2) سيرة ابن هشام 1/ 234 وفي رواية البخاري “ثم حبب إليه الخلاء”.

(3) الكل: الضعيف، والمراد هنا: المسكين واليتيم.

(4) نوائب الحق، جمع نائبة، هي الحادثة تكون في الخير، وقد تكون في الشر.

(5) متفق عليه (خ 3، م 160).

(6) الحمس: جمع أحمس وهو المتشدد الصلب في الدين. وقد أطلقت قريش ذلك على أنفسهم، ورتبوا عليه أموراً: منها تركهم الوقوف بعرفة والإفاضة منها.


 

حيث رأت قريش – وهم ولاة البيت – أن تكون لهم مزايا على غيرهم من الناس ممن يأتي مكة لأداء المشاعر. . .

وأصبح لقريش مناسك خاصة. . ومنع أهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل إلى الحرم. ومنعوا من الطواف بالبيت إلا في ثياب الحمس فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، ومن طاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها.

قال جبير بن مطعم (1): لقد رأيت رسول الله ﷺ قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس – من بين قومه – حتى يدفع معهم منها.

أما قومه فقد تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها – رغم اعترافهم بأنها من المشاعر – بحجة أنهم أهل الحرم فليس ينبغي لهم أن يخرجوا منه.

وهكذا كان يفكر فيما حوله. كل شيء يحتاج إلى تغيير أو يحتاج إلى تصحيح. إنه بحاجة إلى الخلوة بعيداً عن الأصنام التي تملأ ساحة الحرم وتنتشر في جنباته، وبعيداً عن الفكر الوثني الذي سيطر على الغالبية العظمى من الناس.

إنه يجد البون شاسعاً بين ما هو موجود، وبين ما ينبغي أن يكون. . ميزانه في ذلك فطرته السليمة ومشاعره الرقيقة.

إن الصورة واضحة تماماً أمام بصره وبصيرته ولكن كيف السبيل؟ ويأتيه الجواب: إقرأ. . .

_______________________

(1) جبير بن مطعم بن عدي: صحابي كان من علماء قريش وسادتهم توفي بالمدينة. (الأعلام).

مواضيع ذات صلة