القائمة الرئيسية

يدخلون في دين الله أفواجاً

تحررت حركة الدعوة بعد فتح مكة من كل العوائق، سواء أكانت مادية عسكرية، أم كانت نفسية تقليدية. . فقد أصبحت قوة المسلمين هي القوة الأولى والوحيدة في الجزيرة. . وقد رأى الناس بأم أعينهم ان تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع وأن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أزالتها عن بكرة أبيها ولم يحدث نتيجة لذلك أن تغير النظام الكوني. . ؟! وزالت الحجب عن الأعين، وتحرر الفكر من الوهم والخرافة بعد أن سيطرا عليه عدة قرون. . وزال طغيان الجاهلية. .

وأتيح للأعين أن ترى الطريق الحق. وأتيح للفكر أن يصحو من سكرته. . وعندها دخل الناس في دين الله أفواجاً.

قال ابن كثير: لما فتح الله مكة، دخلوا في دين الله أفواجاً، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً، لم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة.

وحتى نستطيع تقدير سعة انتشار الدعوة في هاتين السنتين بعد الفتح، يمكننا الاستفادة من عدد الذين حجوا حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذين زاد عددهم على مائة ألف. بينما كان عدد الفاتحين لمكة قبل سنتين عشرة آلاف.

ومما ينبغي إيضاحه هنا أن هذه السرعة في انتشار الإسلام لم تكن بعامل القوة أو الإكراه. . فلا إكراه في الدين. . ولم تكن إلا بسبب واحد هو إزالة العوائق التي كانت تمنع وصول الدعوة إلى الناس.

بل نستطيع القول بأن ثقافة الإسلام، وآيات القرآن، كانت قد وصلت إلى كل مكان من الجزيرة قبل ذلك، بل قد وصلت إلى القلوب، قبل أن تقر بها الألسنة. وإن حديث عمرو بن سلمة الذي ذكرناه قبل قليل ليعطينا تصوراً صحيحاً ودقيقاً كيف أن الناس في كل جزيرة العرب كانوا يتناقلون أخبار الإسلام بل ويتناقلون ما نزل من الآيات. ولنستمع إلى حديثه مرة أخرى قال:

(. . وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي. .).

وهكذا يتناقل الناس أخبار الإسلام، بل والآيات القرآنية، حتى حفظ عمرو بن سلمة قسماً لا بأس به من القرآن الكريم وذلك قبل أن يسلم أهله. . وهو يومئذ غلام صغير.

وهكذا جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً. .

الدعوة والمجال العالمي:

رأينا كيف أن الرسول الكريم ﷺ قد باشر عمله في هذا الميدان مع مطلع السنة السابعة للهجرة حينما أرسل رسله يحملون كتبه إلى الملوك. .

وكانت غزوة مؤتة رداً عسكرياً على قتل الحارث بن عمير رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني. . وبداية لخوض غمار المعركة الخارجية في سبيل إيصال دعوة الله إلى الناس كل الناس.

ثم كانت غزوة تبوك، والتي بينت أن دعوة الإسلام ماضية في طريقها، وأن ما ربى عليه المسلمون من “عالمية هذا الدين” لم تكن مجرد فكرة، وإنما هي سمة من سمات هذه الدعوة، لا بد من تحقيقها في الواقع بعد أن تحققت في النفوس المؤمنة. .

ولقد حققت هذه الغروة أغراضها. . وبينت المنهج الإسلامي. ومن خلال التطبيق العملي، في كيفية معاملة أهل الكتاب ممن يرغب البقاء على دينه، وكيف تؤخذ منه الجزية تطبيقاً لنص القرآن الكريم.

وبهذا نتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى كان العرب جميعاً قد دانوا بهذا الدين الحنيف. وحتى وضعت الدعوة خطوات ثابتة في طريق التبليغ العالمي.

ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وهو يؤكد أمره على إنفاذ جيش أسامة، وما جيش أسامة إلا الخطوة الثانية بعد تبوك في هذا الطريق. .

استمرار الكيد والتآمر:

على الرغم من فتح مكة، وخضوع معظم الجزيرة العربية لدولة الإسلام، فإن الكيد للإسلام والمسلمين لم يتوقف، ولم ترهب المتآمرين قوة الدولة، وإنما طوروا عملهم في الكيد مع ما يتناسب والوضع الجديد.

إن أمر النفاق في أواخر هذه المرحلة أصبح مكشوفاً ظاهراً، غير خاف على أحد، نتيجة لسلوكهم السيئ، وكذلك لنزول الآيات التي كانت تفضحهم، لهذا فقد كانوا بحاجة إلى مركز يؤمن لهم اللقاء دون أن تمتد إليه الأعين، وبعد أن أعملوا فكرهم وجدوا ضالتهم في بناء مسجد يكون مركزاً لأعمالهم، والمسجد مكان مأمون، ولن تمتد إليه الأعين، وحتى لو حصل هذا فالحجة قوية في أنهم كانوا في  صلاة. .

وبني المسجد. . وزيادة في حبك خيوط القصة، وإتقان إخراجها، دعي الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه. . وكان يومئذ على وشك الانطلاق إلى غزوة تبوك. . فوعدهم أن يكون ذلك بعد عودته. .

وفي طريق عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك نزل عليه جبريل ليخبره بقصة المسجد، فأرسل إليه من هدمه وحرقه. . ونزل في ذلك قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًۢا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلَّا ٱلْحُسْنَىٰ ۖ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَٰذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ} (1).

_______________________

1. سورة التوبة: الآيتان 107- 108.


إنه درس في الوعي للعوائق التي تهيأ لعرقلة سير الدعوة، والتي قد تكون تحت عناوين غاية في البعد عن طبيعة الكيد والمكر، وفي هذا ما فيه من البلاء، ولذا كان على المسلمين في المقابل أن يكونوا على درجة من الوعي، فلا تخدعهم العناوين والمظاهر عن حقائق الأمور.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن قوة الدولة إذا لم تمنع من استمرار الكيد. بل ومحاولة اتخاذ مراكز له. . فهذا يعني بدوره: أنه ينبغي أن تكون أعين المسلمين يقظة حتى ولو كانوا في وضع من القوة متين. . فإن تخطيط الكيد عادة يكون بعيد الغاية. .

حركة الدعوة والاقتصاد

إن المتأمل لحركة الدعوة خلال العهد المدني بكامله، يظهر له بوضوح أن الوضع الاقتصادي لم تكن له السيطرة على هذه الحركة، سواء في ذلك الوقائع التي كانت تفرض على المسلمين، أو الوقائع التي تكون المبادأة فيها من قبل المسلمين.

وهذا جانب مهم تتميز به حركة الدعوة الإسلامية، الأمر الذي ينبغي الوقوف عنده والإفادة منه.

إن هذه الاتجاه لا يعني الاستهانة بالجانب الاقتصادي، ولكنه بالتالي لا يعطيه حق الهيمنة على الحركة. . لأنه والحالة هذه ربما أدى إلى وقوف الحركة وقوفاً كاملاً حيث يكون الوضع الاقتصادي غير ملائم.

وقد يتساءل بعضهم فيقول: كيف استطاعت الدعوة بحركتها أن تتجاوز هذا العائق فلا يكون له دور كبير في عرقلة سيرها؟

وفي الجواب على ذلك، لا بد من أن نذكر بأمرين:

1- إن منهج التربية الذي تبناه المنهج الإسلامي يربي أبناءه على الصبر في كل الأجواء وتجاه كل المواقف، وقد رأينا ذلك تفصيلاً في القسم الأول من هذه الدراسة.

هذا الأسلوب من التربية يتكفل بإيجاد الجيل القوي القادر على تخطي الصعاب، وتجاوز العقباب، وتحمل البلاء. .

2- إن الرصيد الاقتصادي لحركة الدعوة، ليس المال الموجود في بيت المال فحسب، وإنما هو ما يمتلكه المسلمون، ومن هنا كان التأكيد الكبير من الآيات القرآنية على الجهاد بالمال والنفس على حد سواء، بل إن بعض الآيات لتقدم المال على ذكر الأنفس.

قال تعالى:

{ٱنفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَٰهِدُوا بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).

{لَّا يَسْتَوِى ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ } (2).

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَٰرَةٍۢ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (3).

وإذن فالدعوة تمتلك رصيداً ضخماً، هو إمكانية الصبر لدى القائمين بها، وتربية في البذل والعطاء للأنفس والأموال. . هذا الرصيد هو الذي حرر حركتها ويجعلها حرة طليقة لا تثقلها القيود الاقتصادية.

وفي ضوء هذا المسلك لحركة الدعوة نستطيع تفسير كثير من المواقف التي لا يمكن تفسيرها بغير المعطيات السابقة ومن ذلك على سبيل المثال:

* سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر. . والتي فني فيها زاد المسلمين حتى أصبح نصيب الواحد منهم تمرة واحدة في اليوم. .

* وفي غزوة ذات الرقاع لم تكن وسائل النقل متوفرة. حتى كان الستة من المسلمين يعتقبون بعيراً واحداً، ونتيجة لذلك ذهبت نعالهم، وضطروا أن يعصبوا أرجلهم بالخرق. . ولذا سميت الغزوة بذات الرقاع.

* وفي غزوة تبوك، التي سمي جيشها “جيش العسرة” أمثلة كثيرة على ذلك. . والأمثلة بعد ذلك كثيرة كثيرة. .

_______________________

1. سورة التوبة: الآية 41.

 

2. سورة النساء: الآية 95.

 

3. سورة الصف: الآيتان 10 – 11.

 

مواضيع ذات صلة