قال القضاعي: اختص ﷺ بأنه لا يشهد على جور بخلاف غيره (2).
______________________
2. المرجع قبله ص 228، واللفظ المكرم 1/ 245.
واستدل لذلك بما في الصحيحين عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ ﷺ فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا قَالَ: (أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟) قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأُرَاهُ قَالَ: (لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ) وفي رواية للبخاري: (لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ).
(1)
وفي رواية لمسلم:
(فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي)
(2).
فقال بعضهم: هذا دليل على أنه ليس بحرام على غيره أن يشهد؟.
ومن الغريب أن يجعل هذا الأمر من خصوصياته ﷺ وإنما بعث فيما بعث لإقامة العدل وإحقاق الحق بين الناس، فكيف يقوم هذا الحق إذا كان لغيره أن يساهم بشهادته على إقامة الجور؟.
إن الجمع بين روايات الحديث المتعددة تبين أن ما ذهب إليه القضاعي أمر يجانب الصواب.
ففي رواية للحديث:
(أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَارْجِعْهُ)
(3).
وفي رواية قال:
(أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) قَالَ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ
(4).
وفي رواية:
(أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟) قَالَ: بَلَى، قَالَ: (فَلَا إِذًا).
وفي رواية:
(أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمْ الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا؟) قَالَ بَلَى، قَالَ: (فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ)
(5).
______________________
1. متفق عليه (خ 2650، م 1623).
2. أخرجه مسلم برقم (1623).
3. متفق عليه (خ 2586، م 1623).
4. متفق عليه (خ 2587، 1623).
5. هذه الرواية والتي قبلها عند مسلم برقم (1623).
وفي رواية:
( فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا وَإِنِّي لَا أَشْهَدُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ)
(1).
والناظر في هذه الروايات يدرك بوضوح أن قوله ﷺ: (لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ) وقوله: (فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي) ليس المراد منه أبداً أن يشهد غيره، او أن غيره صلى الله عليه وسلم يحق له أن يشهد على جور، وإنما هي صيغة استعملت لتنفيره من هذا العمل، وأنه لا أحد يقبل أن يشهد عليه، وكيف يشهد مسلم على أمر امتنع رسول الله ﷺ من الشهادة عليه؟!.
“قال الإمام ابن حجر: (أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي) أما قوله – أي القائل – إن قوله “أَشْهِدْ” صيغة إذن فليس كذلك، بل هو للتوبيخ يدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع.
وقال ابن حبان: قوله “أَشْهِدْ” صيغة أمر، والمراد به نفي الجواز” (2).
والخلاصة: ليس في الحديث أي دلالة على الخصوصية، بل فيه لفت نظر السائل على عظم ما أقدم عليه، وأنه لن يجد من يشهد على فعله.
______________________
1. أخرجه مسلم برقم (1624).
2. فتح الباري 5/ 215