أخرج الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ:
(إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ) ثُمَّ قَالَ: (بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ قَالَ ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا)
(1).
وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أمره أن بقطع من شجرتين من كل منهما غصناً، ثم يضعه حيث أمره ﷺ ثم قال:
قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: (إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ)
(2).
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى قَبْرٍ فَوَقفَ عليه فَقَالَ، (ائْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ فَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْأُخْرَى عِنْدَ رِجْلَيْهِ)
(3).
وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح عن أبي بطرة أنه مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى قَبْرين.. الحديث، وكذلك أخرجا عن يعلى بن شبابه مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى قَبْرٍ.. الحديث قال ابن حجر: ورواته موثقون (4).
هذه النصوص وغيرها، تثبت أنه ﷺ وضع جريدة أو عوداً رطباً على قبر.
وقد اختلف العلماء: هل هي حادثة واحدة، أم تكررت القصة، ويبدو أن سياق الأحاديث، يؤيد تكرر القصة.
______________________
1. متفق عليه (خ 1378، م 292).
2. أخرجه مسلم برقم (3012).
3. فتح الباري 1/ 319.
4. فتح الباري 10/ 470 – 471.
كما اختلف العلماء: هل كان فعله ﷺ ذاك مما يتأسى به فيه. أم هو خصوصية من خصوصياته؟!
وممن قال بالخصوصية الإمام الخطابي ومن تبعه، وقد استنكر وضع الناس الجريد ونحوه في القبر عملاً بهذه الأحاديث.
قال الطرطوشي: لأن ذلك خاص ببركة يده صلى الله عليه وسلم.
وقال القاضي عياض: لأنه علل غزرهما على القبر بأمر مغيب، وهو قوله: “ليعذبان”.
قال ابن حجر رحمه الله في مناقشة هذه الأقوال: قلت: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب أم لا، أن لا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب أن لو عذب. كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا، أن لا ندعو له بالرحمة. وليس في السياق ما يقطع على أنه ﷺ باشر الوضع بيده الكريمة. بل يحتمل أن يكون أمر به (1).
وقد تأسى بريدة بن الحصيب الصحابي بذلك، فأوصى أن يوضع على قبره جريدتان. وهو أولى أن يتبع من غيره (2). وقد أيد القائلون بالخصوصية قولهم بأن صاحبي القبرين كانا كافرين.
______________________
1. أقول وهذا ما صرح به حديث جابر عند مسلم.
2. فتح الباري 1/ 320
فرد على ذلك ابن العطار، وجزم في شرح العمدة بأنهما كانا مسلمين، وقال: لا يجوز أن يقال إنهما كانا كافرين لأنهما لو كانا كافرين، لم يدعُ لهما بتخفيف العذاب، ولا ترجاه لهما. ولو كان ذلك من خصائصه لبينه (1).
هذه خلاصة لأقوال كثيرة وردت في هذا الموضوع.
والذي نخلص إليه من ذلك: هو وجود الخلاف في هذه المسألة. وما كان من المسائل محل خلاف فلا يصلح للقول بخصوصيته. لأن الأصل والقاعدة العامة: التأسي به صلى الله عليه وسلم فيما يفعل ويقول، ولا يقال بالخروج عن هذه القاعدة إلا عند وجود نص بالتخصيص، ولا نص في ذلك.
______________________
1. فتح الباري 1/ 321.