إن الظروف التي مرت بها المدينة حتى الآن ظروف قاسية، فهناك ازدياد مستمر في عدد السكان نتيجة للهجرة، وهذه الزيادات تحتاج إلى رعاية ريثما يؤمن الواحد منهم مورد رزق له، كما أن الوضع التجاري قد تأثر نتيجة للحروب، فقريش التي كان لها تعامل تجاري مع المدينة قد توقف منذ الهجرة، ثم إن البلد الصغير حينما يتسع طفرة لا بد أن يؤثر ذلك على الوضع املادي لجميع الأفراد.
لهذا كله ولغيره من الأسباب استمرت حال الضيق على المسلمين، وكان عليهم أن يصبروا في هذا الميدان كما صبروا في كل الميادين الأخرى، ولقد مارس المهاجرون، أنواعاً من الصبر – كما رأينا -، كذلك الأنصار فيما بعد. .
ولا بأس أن ننقل بعض النصوص التي تصور الحال الاقتصادية التي صبر عليها المسلمون سنين طوالاً. .(1).
* عن عبدالله بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ
(كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْبَرَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ “يَا أَخَا الْأَنْصَارِ، كَيْفَ أَخِي سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟” فَقَالَ صَالِحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ يَعُودُهُ مِنْكُمْ؟” فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ وَنَحْنُ بِضْعَةَ عَشَرَ مَا عَلَيْنَا نِعَالٌ وَلَا خِفَافٌ وَلَا قَلَانِسُ وَلَا قُمُصٌ نَمْشِي فِي تِلْكَ السِّبَاخِ حَتَّى جِئْنَاهُ. . ) (2).
_______________________
1. حاولت أن أذكر من النصوص ما يغلب على الظن أنه كان في هذه المدة التي نتحدث عنها، أو ما كان يمثل وصفاً عاماً لجميع المراحل المدينة.
2. رواه مسلم برقم 925.
وهكذا كان الضيق في اللباس، ولا شك أن ضيقاً آخر في العيش كان يصاحبه.
* وعن محمد بن المنكدر قال: صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب. قال له قائل: تصلى في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك. وأينا كان له ثوبان على عهد النبي ﷺ؟ (1).
* قال أبو هريرة:
قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ أَصْحَابهِ تَمْرًا فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ (2)
* وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: “مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَا الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا..) (3)
* وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ رَأَى أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَأَتَى أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. . وأظنه جائعاً. . فَقَالَ هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. عِنْدِي كِسَرٌ مِنْ خُبْزٍ وَتَمَرَاتٌ، فَإِنْ جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَحْدَهُ أَشْبَعْنَاهُ، وَإِنْ جَاءَ آخَرُ مَعَهُ قَلَّ عَنْهُمْ.. (4).
تلك بعض النصوص التي تبين الخط العام الذي عاشه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم. ولم تتحسن هذه الحال إلا في بعض الأوقات من الأيام الأخيرة من هذه المرحلة.
_______________________
1. رواه البخاري برقم 352.
2. رواه البخاري برقم 5440.
3. رواه مسلم برقم 2038.
4. رواه مسلم برقم 2040.