×

بداية الاضطهاد ضد الرسول ﷺ وأصحابه

بداية الاضطهاد ضد الرسول ﷺ وأصحابه

الفترة المكية
السنة الرابعة من البعثة
بداية الاضطهاد ضد الرسول ﷺ وأصحابه
614 - 615 ميلادي

ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب، عدو الله الملعون.

ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا:

فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون.

لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته، قالوا:

فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال:

ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة- قال ابن هشام: ويقال لغدق وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء زوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره.

فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك من قوله:

ذَرْنِي وَمن خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً [ 74: 11- 16].

وأنزل الله تعالى: في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول  في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما جاء به من الله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [ 15: 90- 93].

فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.

ثم إن قريشا اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم: سفهاءهم، فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم.

عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال:

حضرتهم، وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا: فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح. قال: فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول:

انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا. قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض:

ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع (عليهم) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم: أنا الذي أقول ذلك. قال: فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه. قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط.

كما نالوا من أبي بكر:

فرجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه، مما جبذوه بلحيته وكان رجلا. كثير الشعر.

أن أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه، لا حر ولا عبد، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فتدثر من شدة ما أصابه، فأنزل الله تعالى عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ [74: 1- 2].

أيضًا عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد، أسمع، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع  على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [ 41: 0- 5 ] ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال:

ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين.

قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله- أو كما قال- فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش، فقالوا له:

ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل عليه السلام، لو دنا لأخذه.

ثم إنهم عدوا على من أسلم، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب لهم، ويعصمه الله منهم. [السيرة النبوية لابن هشام 1/ 262 – 299].

الدروس المستفادة

 
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
[سورة العنكبوت 2-3]
تلك سنة الله في عباده، كما أن من سنته ان  
{الأرض يرثها عباده الصالحون}
  فلن تُمكن حتى تُبتلى.
  • على العبد أن يمتثل أوامر الله في السراء والضراء، فلا تحمله الضراء على مخالفة الشرع، ولا تنسيه السراء امتثال الأمر، فالله قد تعبدنا بالوسائل أن نمتثلها ونعمل لها لكن لا نضعها في قلوبنا، كما انه تعبدنا بالغايات، فليس لنا أن نسلك إلى الغايات التي شرعها الله لك إلا الوسائل التي شرعها الله لك. ليس معنى التعذيب والاضطهاد أن نيأس ونقنط من النصر، إنما الحق أن تجد فيما يحدث لك ولغيرك من ألم أنه سير إلى الله في الطريق، ودنوا من النصر، فللنصر والتمكين ثمنا عظيما ولا يحصل النص ولا التمكين إلا بعد دفع هذا الثمن كاملا
 
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}