×

غزوة بني المصطلق المريسيع

غزوة بني المصطلق المريسيع

الفترة المدنية
السنة السادسة من الهجرة
غزوة بني المصطلق المريسيع
627 - 628 ميلادي

قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست -وتسمى أيضًا المريسيع- .

قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، ويقال: نميلة بن عبد الله الليثي.

(سبب غزو الرسول لهم) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر، ومحمد بن يحيى بن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا: بلغ رسول الله ﷺ أن بني المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث، زوج رسول الله ﷺ، فلما سمع رسول الله ﷺ بهم خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم يقال له:

المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله ﷺ أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه.

(موت ابن صبابة) :

وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث ابن بكر، يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة ابن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ.

(جهجاه وسنان وما كان من ابن أبي) :

فبينا رسول الله ﷺ على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه:

يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى به إلى رسول الله ﷺ، وذلك عند فراغ رسول الله ﷺ من عدوه، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله ﷺ: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا ولكن أذن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله ﷺ يرتحل فيها، فارتحل الناس.

(اعتذار ابن أُبي للرسول) :

وقد مشى عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله ﷺ، حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به. – وكان في قومه شريفا عظيما-، فقال من حضر رسول الله ﷺ من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبا على ابن أبي بن سلول، ودفعا عنه.

(الرسول وأسيد ومقالة ابن أُبي) :

قال ابن إسحاق: فلما استقل رسول الله ﷺ وسار، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله ﷺ: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله قال: عبد الله بن أبي، قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

(سير الرسول بالناس ليشغلهم عن الفتنة) :

ثم مشى رسول الله ﷺ بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك رسول الله ﷺ ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس. من حديث عبد الله ابن أبي.

(تنبؤ الرسول بموت رفاعة) :

ثم راح رسول الله ﷺ بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فويق النقيع، يقال له: بقعاء. فلما راح رسول الله ﷺ هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله ﷺ: لا تخافوها، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء يهود، وكهفا للمنافقين، مات في ذلك اليوم.

ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله ﷺ بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي الذي كان من أمر أبيه.

(طلب ابن عبد الله بن أبي أن يتولى هو قتل أبيه وعفو الرسول) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عبد الله أتى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل (رجلا) مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله ﷺ:

بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

(تولي قوم ابن أبي مجازاته) :

وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، فقال رسول الله ﷺ لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأرعدت له آنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته، قال: قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله ﷺ أعظم بركة من أمري.

قال ابن إسحاق: وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما، فيما يظهر، فقال: يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك أطلب دية أخي، قتل خطأ.

فأمر له رسول الله ﷺ بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله ﷺ غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا.

قال ابن هشام: وكان شعار المسلمين يوم بني المصطلق: يا منصور، أمت أمت.

(قتلى بني المصطلق) :

قال ابن إسحاق: وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين، مالكا وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلا من فرسانهم، يقال له: أحمر، أو أحيمر.

(أمر جويرية بنت الحارث) :

وكان رسول الله ﷺ قد أصاب منهم سبيا كثيرا، فشا قسمه في المسلمين، وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، زوج رسول الله ﷺ.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: لما قسم رسول الله ﷺ سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله ﷺ تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ﷺ ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء، ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي، قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ﷺ قد تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار، فقال الناس: أصهار رسول الله ﷺ، وأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها.

قال ابن هشام: ويقال: لما انصرف رسول الله ﷺ من غزوة بني المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، وكان بذات الجيش، دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة، وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله ﷺ المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي ﷺ وقال: يا محمد، أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، فقال رسول الله ﷺ: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق، في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، فدفع الإبل إلى النبي ﷺ، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها، فخطبها رسول الله ﷺ إلى أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربع مائة درهم.

(الوليد بن عقبة وبنو المصطلق وما نزل في ذلك من القرآن) :

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان: أن رسول الله ﷺ بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم، فرجع إلى رسول الله ﷺ، فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم، حتى هم رسول الله ﷺ بأن يغزوهم، فبينا هم على ذلك قدم وفدهم على رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله ﷺ أنا خرجنا إليه لنقتله، وو الله ما جئنا لذلك، فأنزل الله تعالى فيه وفيهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [ 49: 6- 7 ].. إلى آخر الآية.
وقد أقبل رسول الله ﷺ من سفره ذلك، كما حدثني من لا أتهم عن الزهري، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، حتى إذا كان قريبا من المدينة، وكانت معه عائشة في سفره ذلك، قال فيها أهل الإفك ما قالوا. [السيرة النبوية لابن هشام 2/289 – 296]

الدروس المستفادة

  • جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار،
  • حكمة وصبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: -فقد قابل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، بمثال رفيع في الحكمة والصبر، والعفو وحسن الصحبة، فلو أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أذن لعبد الله بن عبد الله بن أبي بقتل أبيه لقتله، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: ( بر أباك وأحسن صحبته ).. فلم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتقم أو يغضب لنفسه، بل يغضب لله عز وجل..
  • هذا الموقف من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه محافظة على وحدة الصف الداخلية، وعلى السمعة الطيبة، ففرق كبير بين أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وبين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداـ صلى الله عليه وسلم ـ ...
  • الحفاظ على سمعة المؤمنين: وعلى حسن الظن فيما بينهم، قال تعالى:
 
"لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ"