الأسباب الموجبة المسير إلى مكة:
(القتال بين بكر وخزاعة) :
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله ﷺ بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا.
ثم إن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له: الوتير، وكان الذي هاج ما بين بني بكر وخزاعة أن رجلا من بني الحضرمي، واسمه مالك بن عباد- وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة، عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي- وهم منخر بني كنانة وأشرافهم- سلمى وكلثوم وذؤيب- فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من بني الديل، قال: كان بنو الأسود بن رزن يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ونودى دية دية، لفضلهم فينا.
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام، وتشاغل الناس به. فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله ﷺ وبين قريش، كان فيما شرطوا لرسول الله ﷺ وشرط لهم، كما حدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وغيرهم من علمائنا: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله ﷺ وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ﷺ وعهده.
قال ابن إسحاق: فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة، وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم ببني الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم، وليس كل بني بكر تابعه حتى بيت خزاعة وهم على الوتير، ماء لهم، فأصابوا منهم رجلا، وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت بني بكر قريش بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال: كلمة عظيمة، لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه، وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا يقال له منبه وكان منبه رجلا مفئودا خرج هو ورجل من قومه يقال له تميم بن أسد، وقال له منبه: يا تميم، انج بنفسك، فأما أنا فو الله إني لميت، قتلوني أو تركوني، لقد انبت فؤادي، وانطلق تميم فأفلت، وأدركوا منبها فقتلوه، فلما دخلت خزاعة مكة، لجئوا إلى دار بديل بن ورقاء، ودار مولى لهم يقال له رافع.
قال ابن إسحاق: فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ﷺ من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكان في عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي، ثم أحد بني كعب، حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله ﷺ: نصرت يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله ﷺ عنان من السماء، فقال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
(ذهاب ابن ورقاء إلى الرسول بالمدينة شاكيا وتعرف أبي سفيان أمره) :
ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد قال رسول الله ﷺ للناس:
كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة. ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله ﷺ، ليشد العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا. فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟
وظن أنه قد أتى رسول الله ﷺ، قال: تسيرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي، قال: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا، فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.
(خروج أبي سفيان إلى المدينة الصلح وإخفاقه) :
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله ﷺ وأنت رجل مشرك نجس، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله ﷺ، قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله ﷺ فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله ﷺ، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله ﷺ؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وعنده فاطمة بنت رسول الله ﷺ ورضي عنها، وعندها حسن بن علي، غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله، فقال: ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله ﷺ على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنة محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله ﷺ.
قال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني، قال: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك شيئا، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق، فلما قدم على قريش، قالوا:
ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فو الله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب، فوجدته أدنى العدو.
قال ابن هشام: أعدى العدو.
قال ابن إسحاق: ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا:
ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت. قال:
لا والله، ما وجدت غير ذلك.
(تجهيز الرسول لفتح مكة) :
وأمر رسول الله ﷺ بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله ﷺ، فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله ﷺ أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: (لا) والله ما أدري. ثم إن رسول الله ﷺ أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فتجهز الناس.
(شعر حسان في تحريض الناس) :
فقال حسان بن ثابت يحرض الناس، ويذكر مصاب رجال خزاعة:
عناني ولم أشهد ببطحاء مكة … رجال بني كعب تحز رقابها
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم … وقتلى كثير لم تجن ثيابها
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي … سهيل بن عمرو وخزها وعقابها
وصفوان عود حن من شفر استه … فهذا أوان الحرب شد عصابها
فلا تأمننا يا بن أم مجالد … إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها
ولا تجزعوا منا فإن سيوفنا … لها وقعة بالموت يفتح بابها
قال ابن هشام: قول حسان: «
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم
» يعني قريشا، «وابن أم مجالد» يعني عكرمة بن أبي جهل.
(كتاب حاطب إلى قريش وعلم الرسول بأمره) :
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، قالوا: لما أجمع رسول الله ﷺ المسير إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ﷺ من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة، زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره أنها سارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فقال: أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخرجا حتى أدركاها بالخليقة، خليقة بني أبي أحمد، فاستنزلاها، فالتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئا، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ ولا كذبنا، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول الله ﷺ.
فدعا رسول الله ﷺ حاطبا، فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟
فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت أمرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب، يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم. فأنزل الله تعالى في حاطب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [ 60: 1 ]… إلى قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [60: 4 ] … إلى آخر القصة.
(خروج الرسول في رمضان واستخلافه أبارهم) :
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، قال: ثم مضى رسول الله ﷺ لسفره، واستخلف على المدينة أبارهم، كلثوم بن حصين ابن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج لعشر مضين من رمضان، فصام رسول الله ﷺ، وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد، بين عسفان وأمج أفطر.
(نزولهم مر الظهران وتجسس قريش أخبار الرسول) :
قال ابن إسحاق: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، فسبعت سليم، وبعضهم يقول ألفت سليم، وألفت مزينة. وفي كل القبائل عدد وإسلام، وأوعب مع رسول الله ﷺ المهاجرون والأنصار، فلم يتخلف عنه منهم أحد، فلما نزل رسول الله ﷺ مر الظهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلم يأتهم خبر عن رسول الله ﷺ، ولا يدرون ما هو فاعل، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله ﷺ ببعض الطريق.
(هجرة العباس) :
قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله ﷺ عنه راض، فيما ذكر ابن شهاب الزهري.
(وصول النبي إلى ذي طوى) :
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله ﷺ لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإن رسول الله ﷺ ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
(دخول جيوش المسلمين مكة) :
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله ﷺ حين فرق جيشه من ذي طوى، أمر الزبير بن العوام أن يدخل في بعض الناس من كدى، وكان الزبير على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء.
(تخوف المهاجرين على قريش من سعد وما أمر به الرسول) :
قال ابن إسحاق: فزعم بعض أهل العلم أن سعدا حين وجه داخلا، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين- قال ابن هشام: هو عمر بن الخطاب- فقال: يا رسول الله: اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة، فقام رسول الله ﷺ لعلي بن أبي طالب: أدركه، فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها.
(طريق المسلمين في دخول مكة) :
قال ابن إسحاق: وقد حدثني عبد الله بن أبي نجيح في حديثه: أن رسول الله ﷺ أمر خالد بن الوليد، فدخل من الليط، أسفل مكة، في بعض الناس، وكان خالد على المجنبة اليمنى، وفيها أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة وقبائل من قبائل العرب. وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدي رسول الله ﷺ، ودخل رسول الله ﷺ من أذاخر، حتى نزل بأعلى مكة، وضربت له هنالك قبته.
(تعرض صفوان في نفر معه للمسلمين) :
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر: أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا، وقد كان حماس بن قيس بن خالد، أخو بني بكر، يعد سلاحا قبل دخول رسول الله ﷺ، ويصلح منه، فقالت له امرأته:
لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم
ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد، ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر، أحد بني محارب ابن فهر، وخنيس بن خالد بن ربيعة بن أصرم، حليف بني منقذ، وكانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا، قتل حنيس ابن خالد قبل كرز بن جابر، فجعله كرز بن جابر بين رجليه، ثم قاتل عنه حتى قتل.
وكان شعار أصحاب رسول الله ﷺ يوم فتح مكة وحنين والطائف، شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله.
(عهد الرسول إلى أمرائه وأمره بقتل نفر سماهم) :
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ قد عهد إلى أمرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد، أخو بني عامر بن لؤي.
(سبب أمر الرسول بقتل سعد وشفاعة عثمان فيه) :
وإنما أمر رسول الله ﷺ بقتله لأنه قد كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله ﷺ الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله ﷺ بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة، فاستأمن له: فزعموا أن رسول الله ﷺ صمت طويلا، ثم قال: نعم، فلما انصرف عنه عثمان، قال رسول الله ﷺ لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ قال: إن النبي لا يقتل بالإشارة. قال ابن هشام: ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر.
قال ابن إسحاق وعبد الله بن خطل، رجل من بني تيم بن غالب: إنما أمر قتله أنه كان مسلما، فبعثه رسول الله ﷺ مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلما، فنزل منزلا، وأمر المولى أن يذبح له تيسا، فيصنع له طعاما، فنام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركا.
(أسماء من أمر الرسول بقتلهم وسبب ذلك) :
وكانت له قينتان: فرتنى وصاحبتها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله ﷺ، فأمر رسول الله ﷺ بقتلهما معه.
والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي، وكان ممن يؤذيه بمكة.
قال ابن هشام: وكان العباس بن عبد المطلب حمل فاطمة وأم كلثوم، ابنتي رسول الله ﷺ من مكة يريد بهما المدينة، فنخس بهما الحويرث ابن نقيذ، فرمى بهما إلى الأرض.
قال ابن إسحاق ومقيس بن حبابة: وإنما أمر رسول الله ﷺ بقتله، لقتل الأنصاري الذي كان قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مشركا.
وسارة، مولاة لبعض بني عبد المطلب. وعكرمة بن أبي جهل. وكانت سارة ممن يؤذيه بمكة، فأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له من رسول الله ﷺ، فأمنه، فخرجت في طلبه إلى اليمن، حتى أتت به رسول الله ﷺ، فأسلم.
وأما عبد الله بن خطل، فقتله سعيد بن حريث المخزومي وأبو برزة الأسلمي، اشتركا في دمه، وأما مقيس بن حبابة فقتله نميلة بن عبد الله، رجل من قومه.
(طواف الرسول بالبيت وكلمته فيه) :
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبيد الله بن عبد الله ابن أبي ثور، عن صفية بنت شيبة، أن رسول الله ﷺ لما نزل مكة، واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت، فطاف به سبعا على راحلته، يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت له، فدخلها، فوجد فيها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله ﷺ قام على باب الكعبة، فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة [أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة، مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [49: 13 ]… الآية كلها. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»
(إقرار الرسول بن طلحة على السدانة) :
ثم جلس رسول الله ﷺ في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله ﷺ: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء. قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة أن رسول الله ﷺ قال لعلي: إنما أعطيكم ما ترزءون لا ما ترزءون.
(أمر الرسول بطمس ما بالبيت من صور) :
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله ﷺ دخل البيت يوم الفتح، فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصورا في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله، جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام! «ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين 3: 67» . ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست .
(صلاة الرسول بالبيت وتوخي ابن عمر مكانه) :
قال ابن هشام: وحدثني أن رسول الله ﷺ دخل الكعبة ومعه بلال، ثم خرج رسول الله ﷺ وتخلف بلال، فدخل عبد الله بن عمر على بلال، فسأله: أين صلى رسول الله ﷺ؟ ولم يسأله كم صلى، فكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قبل وجهه، وجعل الباب قبل ظهره، حتى يكون بينه وبين الجدار قدر ثلاث أذرع، ثم يصلي، يتوخى بذلك الموضع الذي قال له بلال. [السيرة النبوية لابن هشام 2/ 389 – 413]