(هربه إلى الشام فرارا من الرسول) :
وأما عدي بن حاتم فكان يقول، فيما بلغني: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله ﷺ حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي، لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول الله ﷺ كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعيا لإبلي: لا أبا لك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد، فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد. قال: فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهلى ديني من النصارى بالشام فسلكت الجوشية، ويقال: الحوشية فيما قال ابن هشام- وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها.
(أسر الرسول ابنة حاتم ثم إطلاقها) :
وتخالفني خيل لرسول الله ﷺ، فتصيب ابنة حاتم، فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله ﷺ في سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله ﷺ هربي إلى الشام، قال: فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله ﷺ، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك. قال: ومن وافدك؟ قالت:
عدي بن حاتم. قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله ﷺ وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست منه، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، فقال ﷺ: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني. فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه، فقيل: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام. قالت: فجئت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ.
قالت: فكساني رسول الله ﷺ، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
إشارة ابنة حاتم على عدي بالإسلام) :
قال عدى: فو الله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تؤمنا، قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي انسحلت تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك، قال: قلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرا، فو الله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها: وكانت امرأة حازمة، ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن، وأنت أنت. قال:
قلت: والله إن هذا الرأي.
(قدوم عدي على الرسول وإسلامه) :
قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله ﷺ المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله ﷺ، فانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاسترقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بي رسول الله ﷺ حتى إذا دخل بي بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله ﷺ بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟ قال: قلت: بلى. (قال): أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال قلت: أجل والله، وقال: وعرفت أنه نبي مرسل، يعلم ما يجهل، ثم قال:
لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها (حتى) تزور هذا البيت، لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال: فأسلمت.
(وقوع ما وعد به الرسول عديا) :
وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وايم الله لتكونن الثالثة، ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه. [السيرة النبوية لابن هشام 2/578 – 581]