ولد رسول الله ﷺ في مكة، في الثلث الأخير من القرن السادس الميلادي، ومكة يومئذ هي القلب من جزيرة العرب، كما أنها المركز الديني للعرب قاطبة، ففيها الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إليها يحجون، وبها يطوفون.
والكعبة إنما بنيت لتكون مركزاً لعبادة الله تعالى وتوحيده، قال تعالى:
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِى شَيْـًٔا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ}
(1)
ولكن الأصنام – بعد ذلك – أحاطت بها من كل جانب. حيث عُبدت من دون الله، أو جعلت آلهة مع الله.
ولم يكن وجود الأصنام مقصوراً على مكة، بل اتخذت كل قبيلة لنفسها صنماً أقامته في أرضها ثم عكفت على عبادته، فاتخذت هذيل صنماً اسمه “سواع” وأقامته بـ: “رهاط” (2)، واتخذت كليب “وداً” وإقامته بـ”دومة الجندل” (3). واتخذت أنعم من طيء وأهل جرش من مذحج “يغوث” وأقاموه بـ “جرش” (4)،
______________________
(1) سورة الحج: الآية 26.
(2) رهاط: واد يمر شمال عسفان على 85 كيلاً من مكة شمالاً. (معجم المعالم الجغرافية، للبلادي).
(3) دومة الجندل. قرية في الجوف: شمال تيماء على قرابة 450 كيلاً تصلها طرق معبدة بكل من تيماء فالمدينة، وطريف فعمان. (معجم المعالم الجغرافية، للبلادي).
(4) جُرَش: وهي مدينة عظيمة كانت قائمة إلى القرن الرابع (الهجري) وفي عهد النبي كانت تعتبر من المدن المتطورة عسكرياً، إذ جاء أن بعض الصحابة كانوا يجرش أثناء حصار الطائف يتدربون على الدبابات والمنجانيق، ثم اندثرت، وتوجد آثارها اليوم قرب “خميس مشيط” (معجم المعالم الجعرافية).
كما اتخذت خيوان – بطن من همدان – “يعوق” بأرض همدان من أرض اليمن، وذو الكلاع من حمير اتخذوا “نسراً بأرض حمير،. . . (1).
وقد اتخذت العرب مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده.
فكانت لقريش وبني كنانة: العُزى بنخلة، وكان سدنتها وحجابها من بني شيبان.
وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بنو معتب من ثقيف.
وكانت مناة للأوس والخزرج بقديد على ساحل البحر من ناحية المشلل وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة. . بتبالة. . (2).
وإمعاناً منهم في تقديس الوثنية، كانوا يحملون معهم الأحجار لعبادتها. عن أبي رجاء العطاردي قال: “كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه، ثم طفنا به. . . ” (3).
ومع قيام الأوثان لم ينكر الناس وجود الله تعالى خالقاً مبدعاً، بل جعلوا عبادة تلك الأصنام وسيلة تقربهم إلى الله تعالى: قال تعالى:
{وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُوا مِن دُونِهِۦٓ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ}
(4).
وهكذا أضحت العبادة والنذور، والقرابين والذبائح. . تقدم لغير الله تعالى. . وذهبت معالم ديانة إبراهيم عليه السلام، فلم يبق منها إلا الحج، الذي شوهت معالمه، فطاف الناس بالبيت عراة، نساء
______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 78 – 80.
(2) سيرة ابن هشام 1/ 83 – 86.
(3) صحيح البخاري. برقم (4376),
(4) سورة الزمر: الآية 3.
ورجالاً، وأصبحت الصلاة صفيراً وتصفيقاً
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلَّا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}
(1)
كما غيرت مواعيده تبعاً للتلاعب بالأشهر الحرم تقديماً وتأخيراً.
وأنكروا البعث بعد الموت كما قال تعالى:
{وَقَالُوا مَا هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهْرُ ۚ . .}
(2)
وقال تعالى:
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُۥ ۖ قَالَ مَن يُحْىِ ٱلْعِظَٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ}
(3).
تلك هي الخطوط العريضة لعقيدتهم.
وأما حياتهم الاجتماعية فكانت قائمة على القبلية، حيث تعد القبيلة هي الوحدة الاجتماعية، وشيخ القبيلة هو سيدها المطاع، وأفرادها ينصر بعضهم بعضاً، ظالمين ومظلومين، ونفوذ الرجل في قبيلته يعود إما لكثرة أولاده، وإما لغناه وكثرة أرقائه أو لكرمه.
ومما يؤيد أهميته كثرة الأولاد ما روي عن عبد المطلب، حينما ذهب ليحفر زمزم فاعترضته قريش، ولم يكن له – يومئذ – إلا ولد واحد هو الحارث، الذي عجز عن منع أبيه، وشعر عبد المطلب بضعفه لقلة ولده فنذر: لئن وُلد له عشر نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عند الكعبة (4).
كما كان لكثرة الأرقاء أهميتهم في حماية ومنع سيدهم أو معتقهم، ولهذا لام أبو قحافة ابنه أبا بكر حينما بدأ يعتق الأرقاء من النساء فقال له: يا بني إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك (5).
______________________
(1) سورة الأنفال: الآية 35.
(2) سورة الجاثية: الآية 24.
(3) سورة يس: الآية 78.
(4) سيرة ابن هشام 1/ 151.
(5) سيرة ابن هشام 1/ 319.
ولم يكن للمرأة كبير قيمة في المجتمع العربي، فلم يكن لها حق في الميراث (1)، وكان للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء، وانتشرت عادة وأد البنات لدى بعض القبائل – وهو دفنهن وهن على قيد الحياة – وكان ذلك خوف العار حيناً، وبسبب الفقر حيناً آخر.
وكان للنكاح أنواع، عن عائشة رضي الله عنها:
“أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ:
فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوْ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا.
وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ.
وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ عَلَيْهَا لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا تَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ.
وَنِكَاحُ الرَّابِعِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ (2)، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ فَالْتَاطَ بِهِ (3) وَدُعِيَ ابْنَهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ.
______________________
(1) تفسير ابن كثير في تفسير الآية 7 من سورة النساء.
(2) القافة: جمع قائف، وهو الذي يعرف شبه الابن بأبيه بعلامات دقيقة.
(3) التاط به: أي ألحق به ونسب إليه.
فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِالْحَقِّ هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ”
(1).
وكانت المرأة نفسها – في بعض أحوالها – متاعاً يورث، كما كان يحدث لزوجة الأب بعد موته.
ولم يكن للرفاهية نصيب في حياتهم إلا في القليل النادر، ويعطينا المغيرة بن شعبة صورة واضحة لما كانوا عليه، وذلك من خلال مقابلته يزدجرد قبيل وقعة القادسية. قال: “. . . فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجُعلان والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه. . ” (2).
وكانت كل قبيلة سيدة في مضاربها وأرضها، وقد تغير على غيرها، أو يغير غيرها عليها، وقد تنشب الحرب بين القبائل لأتفه الأسباب كما حصل في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان. . .
ولم يكن لهم دولة تجمعهم، وإن كان لمكة سلطانها الديني على القبائل جميعها، كما كان لها مركزها التجاري حيث تنطلق منها رحلتا الشتاء والصيف: إلى اليمن وإلى الشام، وقريباً منها كانت تقام أسواق العرب الشهيرة عقب موسم الحج.
وعلى الرغم من كون الكرم صفة أصيلة في العرب، فإنه لم يمنعهم من التعامل بالربا مستغلاً القوي فيهم الضعيف: وكان الخمر والميسر شيئاً أساسياً في ندوات القوم وسهراتهم.
______________________
(1) صحيح البخاري، كتاب النكاح برقم (5127).
(2) البداية والنهاية” 7/ 42.
تلك إلمامة سريعة عن العرب. في جزيرتهم، أما الوضع السياسي العام إيان تلك المرحلة من الزمن، فتحكمت به دولتان رئيستان: دولة الفرس التي قامت على الوثنية والإلحاد، ودولة الروم التي دانت بالنصرانية، التي لا تختلف عن الوثنية بسبب ما أصابها من تحريف، والناس فيهما طبقات، وعمومهم في مقام العبيد بالنسبة للسادة من الطبقة الحاكمة.
والأديان السماوية؛ اليهودية والنصرانية، كلاهما دخله التحريف والتبديل، حتى ذهبت الحقيقة الأصيلة من كليهما، هي الدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك، وباتت تعاليمهما وطقوسهما أقرب إلى الوثنية، وتدهور الفكر فيهما، فعمت الخرافات والأباطيل، وساد الدجل، واستغل رجال الدين العامة من الناس. .
ومع كل ما كان العرب عليه من الباطل، فقد كان وضعهم الخلقي لا يقارن بوضع غيرهم، فظل الكرم، وحرمة الجوار، وصيانة الأعراض، والاهتمام بالأنساب، والمروءة والشهامة، والنجدة. . أمراً قائماً في حياتهم. لا يشرف المرء إلا بهذه الأوصاف، ولا يسود في قومه إلا إذا برهن على أصالتها في نفسه.
كما كانوا على الفطرة، لم تفسدهم المدنيات المجاورة، نفوسهم نزاعة إلى الحرية، لا يقبلون الهوان والذل، للأنفة جذور عميقة في نفوسهم وربما كان ذلك بعضاَ من حكمة الله تعالى أن جعل الرسالة الخاتمة فيهم، وهو ما يشير إليه الحديث الشريف من قوله ﷺ، وقد سئل عن أكرم الناس:
[. . . فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا]
(1).
______________________
(1) متفق عليه (خ 3353، م 2378).