الإذن بالهجرة الثانية:
لم يتحسن وضع المسلمين بعد عودة مهاجري الحبشة من الهجرة الأولى فما زالت كل الأسباب التي دعت للهجرة الأولى قائمة بل إن قريشاً زادت من شدتها وغلظتها عليهم، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية (1).
وخرج المسلمون أرسالاً – كما تقول أم سلمة – حتى اجتمعوا في الحبشة فكانوا بخير دار إلى خير جار آمنين. . .
وكانت عدتهم ثلاثة وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة.
قريش تبعث رسلها إلى النجاشي:
ولم يطب للمشركين أن يروا المسلمين في راحة وأمن. فاجتمعوا على أن يرسلوا إلى النجاشي عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص طالبين إرجاعهم وأرسلوا معهم الهدايا الكثيرة له ولمن حوله. .
واستطاع عبد الله وعمرو أن يمهدا للأمر بدفع الهدايا إلى البطارقة، وطلباً مساعدتهم عندما يستشيرهم النجاشي. ثم دخلا عليه فقدما له الهدايا. فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك: إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه
وصدق البطارقة قولهما، وطلبوا من النجاشي تلبية طلبهما، وكان عمرو وعبد الله يتخوفان أن يسمع الملك كلام المسلمين. . .
وغضب النجاشي ثم قال: لا لعمر الله. لا أردهم عليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم جاؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري. . .
وأرسل إليهم فدعاهم وسألهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟.
وتكلم جعفر بن أبي طالب فبين ما كانوا عليه في الجاهلية وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال النجاشي: هل معك شيء مما جاء به عن الله. قال: نعم ثم قرأ عليه صدراً من
{كٓهيعٓصٓ}
سورة مريم: الآية 1.
فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته، ثم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة ثم قال لهما: انطلقا والله لا أسلمهم إليكما.
وقال عمرو لصاحبه: والله لآتينه غداً عنهم بما يستأصل به خضراءهم. ثم غدا عليه فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً فسلهم عما يقولون فيه.
فأرسل إليهم – وقد علموا ما يريد – قالت أم سلمة: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم يتشاورون ثم قالوا: نقول ما قال الله وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن.
ودخلوا عليه فقال: ما تقولون في عيسى ابن مريم. قال جعفر: نقول الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود. . . اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون.
الدروس المستفادة:
ماذا كان يتوقع عمرو من المسلمين في الجواب على ذلك السؤال؟ إن الذين تركوا أهلهم وديارهم وبلدهم في سبيل الحق الذي آمنوا به، هل يتنازلون عن هذا الحق من أجل إقامة مؤقتة. وإذا كانت قد هانت عليهم أرضهم في سبيل ما آمنوا به فكل أرض أخرى هي أهون. أما ما تخوفه المسلمون فهو أنهم وجدوا الراحة والاطمئنان في بلده، وعدم رضاه يعني التفتيش عن أرض أخرى.
ونتساءل ما الذي تريده قريش من المسلمين؟ ألم يتركوا لها مكة فما الذي تريده من إعادتهم؟ إنها تريد التضييق عليهم حتى يتركوا عبادة الله ويعودوا إلى عبادة اللات والعزى. إن الكفر لا يطمئن لوجود الإيمان أيا كان (2).
ونتساءل أيضاً – وقد استعرضنا أسماء المهاجرين، فلم نجد بينهم بلالاً ولا صهيباً ولا خباباً، وهناك شك في هجرة عمار – نتساءل لم لم يهاجر هؤلاء وهم الذين نالوا ما نالوا من التعذيب والابتلاء؟.
إن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم عذبوا حتى مل المعذبون ورأوا أن لا فائدة من ذلك. وكأن التعذيب كان لقاحاً مضاداً لجرثوم المرض – الذي هو الخوف – فما عادوا يهتمون، إن كل ما لدى قريش من وسائل في التنكيل قد خبروه وعرفته أجسادهم.
ثم إن قريشاً شغلت عنهم بالمسلمين الآخرين الذين بدؤوا يظهرون في كل قبيلة وفخذ. . .
وبعد فما الذي تعنيه الهجرة إلى الحبشة في قاموس العقيدة.
إن الإسلام جاء بالتوحيد فيما ينبغي أن يكون في حياة المؤمن شيء ما، أو قيمة ما، تزاحم هذا المفهوم او تنقص من حقه.
إن الذين بعث إليهم – وفيهم – رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان يؤثر في سلوكهم ونفسياتهم أمران:
1- الارتباط بالقوم ممثلاً بالعشيرة والقبيلة.
2- الارتباط بالأرض.
وهنا أمران يزاحمان في النفس معاني التوحيد. وكان لا بد من التخلص عملياً وليس قولاً من ذلك.
وكان إعلان الإيمان تخلصاً من العصبية القبلية ليصبح الولاء للمؤمنين وما تحمل المشاق والبلاء في سبيل المحافظة على الارتباط برسول الله إلا التعبير الواقعي الحق على أن الارتباط قد انتهى. وقد عبر المشركون عن ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق جماعتهم. فقد وهت وتهاوت تلك الروابط لتقوم مقامها روابط من نوعية العقيدة التي استقرت في نفوس المؤمنين إنها روابط الإيمان فكانت الأخوة في الله. . .
أما الارتباط بالأرض فقد كانت مكة أم القرى وكانت العاصمة الدينية للعرب قاطبة، وكان موسم الحج كل عام يؤكد هذه المكانة، فسكانها هم حماة الحرم. . وإذن فقد تحول الارتباط بهذه الأرض إلى مزايا نفسية واجتماعية جعلت سكانها أكثر وأكثر ارتباطاً بها.
ولئن كان الإسلام لم يزد مكة إلا رفعة فإن الهجرة كانت تعني فيما تعنيه أنه في حال تعارض أمر العقيدة مع أي أمر فإن القضية تحل لحساب العقيدة. فإذا كان المسلمون في مكة، وطنهم الأصيل، لم يعودوا قادرين فيه على ممارسة شعائر دينهم وإعلان عقيدتهم فلا مناص من أن تثبت العقيدة أنها هي الأولى.
وكانت الهجرة هي التطبيق العملي لأولوية العقيدة. وترك الأرض – بكل ما تعنيه من وشائج ومصالح وارتباطات – في سبيلها، وكان لا بد أن يكون الدرس عملياً. ذلك أن الدروس النظرية في العقيدة غير مجدية.
ولعل هذا يفسر لنا عدم ضرورة اشتراك بلال وأمثاله في تطبيق هذا الدرس، بينما كان غيرهم بحاجة إليه (3)، مثلهم في ذلك مثل الأغنياء والفقراء فإن الأغنياء هم الذين يعنيهم فقه الزكاة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للفقراء.
عودة بعض المهاجرين إلى مكة:
عاد بعض الذين هاجروا – إلى الحبشة – إلى مكة ثانية.
والسبب الحقيقي لرجوعهم، هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بقوله: قال ابن سعد وغيره: إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة، وشهد بدراً منهم أربعة وعشرون رجلاً (4).
وأما الذين لم يعودوا فقد أقاموا في الحبشة حتى طلب الرسول صلى الله عليه وسلم عودتهم، وذلك عام خيبر، حيث رجعوا مع جعفر بن أبي طالب إلى المدينة.
ويؤيد قول ابن القيم، ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها، وهي تروي حديث هجرة أبيها، قال:
“قَدْ رَأَيْتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَهُمَا حَرَّتَانِ فَخَرَجَ مَنْ كَانَ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. . .”
رواه البخاري برقم 3905 وفي مسند أحمد 6/ 198.
وهكذا تبين السيدة عائشة رضي الله عنها سبب عودتهم، مما لا يبقى معه مجال للآراء الأخرى، والله أعلم.
1. ورد ذكر المرة الثانية في زاد المعاد 3/ 25 والبداية 3/ 67
2. ألسنا نشاهد في أيامنا مقاومة الحركات الإسلامية في كثير من البقاع، وتتبع أفرادها حتى خارج حدود وطنهم اغتيالاً واختطافاً. إن الكفر هو الكفر في الماضي والحاضر، وما كان للجاهلية أن تهادن الإسلام، وإذا بدا هذا في يوم من الأيام فإنما ليستكمل الجاهلية قوتها،. . ومع ذلك يظن كثير من المسلمين أن من الممكن التعايش مع الجاهلية. ليتنا نستفيد من دراسة التاريخ
3. يحسن بنا أن نذكر أن أبا بكر استأذن رسول الله في الهجرة، فأذن له فخرج مهاجراً حتى إذا سار من مكة يوماً أو يومين، لقيه ابن الدغنة فقال: أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي. . فقال: ارجع فأنت في جواري، ودخل مكة في جواره ثم رده عليه مؤثراً جوار الله سبحانه، وذلك حينما طلبت قريش إلى ابن الدغنة أن يطلب من أبي بكر الاستخفاء قراءته في بيته، فقال له أبو بكر: أو أرد عليك جوارك
4. زاد المعاد 3/ 26.