×

الذهاب إلى الطائف

رأينا كيف أن قريشاً نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تستطعه في حياة أبي طالب. وكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفكر في مكان آخر – غير مكة – يعرض فيه دعوته ويفتش عن قوم يقومون بنصرته حتى يبلغ أوامر الله تعالى بعد أن أصمت قريش آذانها.

وكانت الطائف أقرب بلد مجاور لمكة. وخرج (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم متجهاً نحوها ماشياً على قدميه. يحدوه الأمل في أن ييسر الله له مخرجاً مما هو فيه . . لم يكن الطريق مسهلاً ولم تكن المسافة قريبة. ولكن طبيعة الدعوة إلى الله هي الاستهانة بالمصاعب  والتغلب عليها.

وصل الطائف وأشراف ثقيف – يومئذ – ثلاثة إخوة هم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير بن عوف، وضمه المجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه:

– فقال أحدهم: هو يمرط (2) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

– وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك.

– وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردَّ عليك الكلام. ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف. وقال لهم: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ خبره ذلك إلى قومه.

ولكن القوم لم يكونوا أهلاً للخير في الثانية – كتمان الخبر – كما يكونوا أهلاً له في الأولى – تلبية الدعوة -. فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة (3) – وهما فيه – ورجع عنه سفهاء ثقيف. بعد أن رموه بالحجارة التي أدمت عقبيه حتى اختضبت نعلاه بالدماء.

وجلس صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة وقد أخذ التعب منه مأخذه ليتجه إلى خالق السموات والأرض رافعاً إليه شكواه طالباً منه رضاه:

(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل عليك سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).

وأرسل عتبة وشيبة مع غلام لهما اسمه عداس بقطف من عنب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: (بسم الله) ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال صلى الله عليه وسلم: (ومن أي البلاد أنت وما دينك؟) قال: نصراني من أهل نينوي فقال صلى الله عليه وسلم: (من قرية الرجل الصالح يونس بن متى) فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي) فأكب عداس: عليه يقبل رأسه ويديه ورجليه.

وقال أحد ابني ربيعة للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. وجاء عداس فسألاه عن سبب ما فعل فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. . وحاولا تثبيته على نصرانيته! (4).

لم يكد عداس بحاجة إلى براهين كثيرة. . . تأمل في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد سماعه التسمية. . حيث تأكد من صدق اللهجة ثم تأكد له الأمر عندما ذكر له يونس بن متى.

وجاء جبريل عليه السلام فنادى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك. وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. وناداه ملك الجبال فسلم عليه ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟) قال صلى الله عليه وسلم:

(بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً)

الحديث في الصحيحين (خ 3231، م 1795) والأخشبان جبلان بمكة

إن العقوبة – لو أرادها صلى الله عليه وسلم – كانت موجهة لأهل مكة. فالأخشبان جبلان بمكة. ذلك لأن أهلها هم السبب بإخراجه وحصول ما أصابه ولكنه صلى الله عليه وسلم – وهو الرحمة للعالمين – لم يكن لينتقم لنفسه، على الرغم من ذلك العناء الذي هو فيه. إن الدماء ما زالت تسيل من قدميه وصوت السفهاء ما زال صداه في أذنيه وشماتة شيبة وعتبة لا يحتاج الحديث عنها إلى برهان ومن وراء ذلك كله الماضي الذي قضاه بمكة. . . الحصار والملاحقة بالأذى له ولاتباعه – والمستقبل. . وما هو المستقبل إنه غير واضح حتى الآن، إلا فيما يرتبط بوعد الله من نصر رسوله صلى الله عليه وسلم. كل ما ذكرنا وهو بعض ما تداعى إلى ذهن رسول الله وملك الجبال يعرض خدماته . كان كفيلاً بأن يقول نعم وحينئذ كان سوف يقال كانت مكة. .

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان على ثقة من نصر الله كان أمله كبيراً في أن تكون مكة نفسها مصدراً لإمداد البناء الإيماني بأناس قادرين على حمل الأمانة. وقد تحققت أمنيته عليه السلام فيما بعد.

وتابع صلى الله عليه وسلم طريقه إلى مكة ماشياً كما ذهب. . ودخولها ليس أمراً ميسوراً – خاصة وأن أخبار زيارته للطائف ربما كانت قد وصلت مكة فكان لا بد من جوار يدخل به مكة.

وقبل المطعم بن عدي – برحابة صدر – أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جواره وخرج مع بنيه متقلدي السيوف وكانوا في حماية الرسول صلى الله عليه وسلم محيطين به يطوف ويصلي، وقد أعلن المطعم جواره على الملأ. وكان ذلك مغيظاً للقوم فقال أبو سفيان للمطعم: أمجير أم متابع، قال: لا بل مجير، قال: إذن لا تخفر، قد أجرنا من أجرت (5).


1. في رواية أخرى: خرج ومعه زيد بن حارثة.

2. يمرط: ينزعه ويرمي به.

3. هما من أهل مكة ولكنهما يملكان ذلك الحائط بالطائف

4. سيرة ابن هشام 1/ 419- 421.

5. البداية 3/ 137، وفي الكامل 2/ 64 أن القاتل للمطعم: أمجير أم متابع؟ وهو أبو جهل.

مواضيع ذات صلة