×

النبي ﷺ الأب الرحيم

الأبوة الحانية:

من خلال العرض السابق لترجمة أولاده ﷺ تطل علينا معالم الأبوة الفاضلة في شخصية النبي الكريم ﷺ.

هذه الأبوة التي تحمل في ثناياها كل معاني الرحمة والعطف والحنان، والرعاية والحب. تطل علينا من خلاف واقع عملي، تعجز الكلمات عن احتواء معانيه، وبيان مراميه. فتظل رواية الوقائع هي المادة التي يستطيع الكاتب أن يضعها بين يدي القارئ، ويترك له حرية التحليق بفكره وعقله عله يدرك بعض ما تعنيه أو ترمي إليه.

 ولعل أول مراحل التعبير عن سعادة الأب هي فرحة بقدوم مولوده، وإذا كانت العواطف ليس لها مقاييس حتى نحدد مقدار حرارتها، فإن بعض التصرفات المادية قد تكون مؤشراً على درجة تلك العاطفة.

 قال ابن القيم وهو يتحدث عن إبراهيم وولاته: وبشره – أي النبي ﷺ – به أبو رافع مولاه، فوهب له عبداً (1).

 كانت مكافأة البشارة عبداً، والعبد يومئذ قيمة كبيرة، فيها بعض التعبير عن سروره ﷺ.

 وهل كان هذا المسلك منه ﷺ في حق إبراهيم خاصة؟ ما نعتقد ذلك وإنما لم يذكر شيء عن مسلكه ﷺ بشأن أولاده السابقين. لأن ولادتهم كانت بمكة، وقبل النبوة، ومن كانت ولادته بعدها كعبدالله، فإن ظروف مكة ما كانت تسمح بنقل مثل هذه المشاعر فقد كان الصحابة في ظروف صعبة، مما لم يتح لهم أن ينقلوا لنا تصرفاته ﷺ يومئذ.


1. “زاد المعاد” (1/ 104)

بل إننا نكاد نجزم بأن فرحه بأولاده الآخرين ربما كان أكثر من ذلك فأمهم هي خديجة رضي الله عنها أحب زوجاته إليه ﷺ، بينما أم إبراهيم هي سريته مارية.

 وقد كان ﷺ  شغوفاً بهم في صغرهم فها هو – كما رأينا – يذهب إلى العوالي – والعوالي على بُعد ثلاثة أميال من المدينة – ليزور ابنه إبراهيم فيقبله ويشمه ثم يعود.

 وينقل لنا أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ موقفاً من هذه المواقف فيقول: 

خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ: (أَثَمَّ لُكَعُ أَثَمَّ لُكَعُ) فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ) (1).

وهكذا يذهب ﷺ إلى بيت فاطمة ليس له قصد سوى تقبيل الحسن ومعانقته.

وقد كان هذا مسلكه ﷺ في مجالسه الخاصة والعامة، 

فقد قَبَّلَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسٌ فَقَالَ الْأَقْرَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنْ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ إِنْسَانًا مِنْهُمْ قَطُّ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) (2).

وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) (3).

إن حب الأولاد وتقبيلهم مؤشر على وجود الرحمة في القلوب.


1. متفق عليه (خ 2122، م 2421). والمراد بلكع هنا: الصغير. والسخاب: قلادة من القرنفل ونحوه

2. متفق عليه (خ 5997، م 2318).

3. متفق عليه (خ 5998، م 2317).


والطفل يحب المداعبة. وهي ضرورية لاستكمال بنائه النفسي والجسمي. . وهذا البراء ينقل لنا صورة من صور الكمال الإنساني فيقول: 

رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ حَامِلًا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ (1).

ودخل الحسن المسجد والنبي ﷺ يصلي وقد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ في سجوده حتى نزل الحسن، فلما فرغ قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، قد أطلت سجودك. قال: 

(إِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ) (2).

تلك صور من صور التعامل مع الأولاد سجلتها السنة المطهرة لتكون السبيل الذي يسير المسلمون فيه متتبعين آثار الخطى الكريمة.

وكان ﷺ يكرم بناته. وكان إذا دخلت عليه ابنته فاطمة يقوم لها ويقبلها، ويُجلسها عن يمينه، وربما بسط لها ثوبه.

وكان يحزن لحزنهن، فعن أسامة بن زيد قال: أرسلت ابنة النبي ﷺ إليه:

قَالَ أَرْسَلَتْ ابْنَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَيْهِ: إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ فَأْتِنَا. فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (3).

كما كان يرحم المريض منهم ويهتم لمرضه، وقد رأينا كيف خلف عثمان عن غزوة بدر ليكون عند رقية في مرضها.

______________________


1. متفق عليه (خ 3749، م 2422).

2. أخرجه أحمد في “المسند” (3/ 494)، وكذا النسائي (1140).

3. متفق عليه (خ 1284، م 923).


ومع كل هذا الحب وهو العطف، فإنها ما كانت تأخذه العواطف في تنفيذ الأولويات، وقد رأينا كيف لم يلب طلب فاطمة رضي الله عنها يوم جاءت تطلب خادماً من السبي بتشجيع من عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ 

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:(وَاللهِ لَا أُعْطِيكُما وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تطوي بُطُونُهُمْ. .) (1).

 وحتى الصغار لا تهاون معهم في تطبيق أوامر الله. 

فهذا  الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَلْعَبَانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (كِخ كِخ) فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ فَقَالَ: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ ﷺ لَا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ) (2).

إنها تربية الانضباط مع أوامر الشرع. .

لا فرق بين ذكر وأنثى:

قامت الحياة الجاهلية على تقديم الذكر على الأنثى، والفرح بالمولود إذا كان ذكراً وبالحزن والأسى إذا كان أنثى، وقد سجل القرآن هذا السلوك الذي ساد فيهم فقال: 

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ  ﴿٥٨﴾ يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓ ۚ أَيُمْسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُۥ فِى ٱلتُّرَابِ ۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}

[النحل: 58- 59].

 وجاء الإسلام ليصحح المسار، ويعتني بالأنثى عنايته بالذكر، وليقول إن المولود هبة من الله تعالى، فينبغي للمسلم أن يفرح بهذه الهبة ناظراً إلى مهديها. فإنه سبحانه 

{يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ}

[الشورى: 49] 

ومن لم يكن كذلك فليراجع حساب إيمانه.

______________________


1. انظر تفصيل ذلك في كتاب “من معين السيرة” للمؤلف، (ص 226).

2. متفق عليه (خ 1485 و 1419، م 1069).


ولم يكبر أولاد النبي ﷺ من الذكور، حتى نقارن بين سلوكه إزاء الذكور وسلوكه إزاء الإناث، ولكنا رأينا في مسلكه ﷺ تجاه بناته من الاحترام والتوقير والحب ما لا مزيد عليه، فهو يقوم لهن ويستقبلهن، ويفرح لفرحهن ويحزن لحزنهن، الأمر الذي يجعلنا على يقين من أنه لو كان كبر أولاده الذكور لم يكن لهم أكثر من ذلك.

ولئن كان أولاد ابنته فاطمة يدخلون المسجد فيعتلون ظهره، فيطيل السجود لأجل ذلك، فلقد رآه المسلمون جميعاً وهو يؤمهم حاملاً ابنة بنته زينب، أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها (1).

وتبين لنا عائشة رضي الله عنها مكانة أمامة هذه عند رسول الله ﷺ فتقول: أهدي لرسول الله ﷺ قلادة من جزع ملمعة بالذهب، فقال: (والله لأضعنها في رقبة أحب أهل البيت إلي) وأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة بنت أبي العاص (2).

وهكذا يأخذ أولاد بناته مكانتهم من نفس رسول الله ﷺ ذكوراً وإناصاً ويشملهم جميعاً بعطفه وحبه وحنانه.

اختيار الزوج المناسب للبنت:

أخرج النسائي عن بريدة قَالَ: 

“خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاطِمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّهَا صَغِيرَةٌ) فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ” (3).

وسياق هذا الحديث والأحاديث الأخرى في الموضوع تؤكد أن علياً خطبها إثر خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جيمعاً، فلم يكن هناك فاصل زمني.

فقوله ﷺ: (إِنَّهَا صَغِيرَةٌ) لا يعني أنها ليس أهلاً للزواج، إنما هي صغيرة باعتبار فارق السن بينها وبين أبي بكر، وبينها وبين عمر رضي الله عنهما.

______________________


1. متفق عليه (خ 516، م 543).

2. “مجمع الزوائد” (9/ 254) وقال الهيثمي: رواه الطبراني واللفظ له، وأحمد باختصار وأبو يعلى، وإسناد أحمد وأبي يعلى حسن.

3. أخرجه النسائي (3221).


ولما تقدم علي، ولم يكن قد زاد عمرها شيئاً يذكر، وافق على خطبتها له، وذلك لما بينهما من تقارب في السن.

وفي هذه القضية من هديه ما فيها، فتلك مصلحة من مصالح البنت ينبغي على الأب مراعاتها والسعي لتحقيقها.

ومن العجيب حقاً، أن كثيراً من الناس يدللون لزواج الطاعن في السن بالصغيرة بفعله ﷺ حين تزوج عائشة وينسون فعله حين زوج فاطمة.

وهذا فعله، وهذا فعله، لم يذكرون دائماً فعلاً واحداً وينسون الآخر تماماً وكأنه لا وجود له؟

إن كثيراً من ملابسات زواجه ﷺ بعائشة، تكاد تجعل هذا الزواج خصوصية من خصوصياته، وقد سبق الحديث عن ذلك.

وهكذا يسن ﷺ للآباء جميعاً أمر الاهتمام بشؤون بناتهن واختيار الأصلح مراعياً في ذلك الجانب الدنيوي والأخروي جميعاً.

رعاية البنات بعد الزواج:

ليس معنى أن يزوج الرجل ابنته، أن تنقطع الصلة بينها وبينه بعد ذلك وبتركها لمصيرها الذي آلت إليه، فيجعل كل شيء عنها.

فرعايتها بعد الزواج ضرورية كما هي قبله، ولقد رأينا رسول الله ﷺ كثيراً ما يزور بناته. وهذه الزيارات تطمئنه على أوضاعهن.

والذي نتوقف عنده في هذا الصدد، هو تصريحه ﷺ أن ما يؤذي بنته يؤذيه ولم يكن بقي يومئذ غير فاطمة رضي الله عنها.

وقد سبق ذكر ذلك عند الحديث عن فاطمة رضي الله عنها.

فهو ﷺ يستاء لما أحزن ابنته، ولا يجعل الأمر بينه وبين علي، ولكنه يعلنه على المنبر ليعرف الناس كلهم ذلك.

إنه تعليم للجميع لمعنى الرعاية الأبوية، وأن واجب الأب أن يسعى لما فيه صلاح أبنائه، كباراً وصغاراً.

وما ثناؤه ﷺ على أبي العاص، إلا لما علمه من حسن الرعاية منه لابنته، وكيف أنه لم يفكر بالزواج على الرغم من بعده عن زوجته حين أرسلها إلى النبي ﷺ في المدينة وبقي هو في مكة (1).

إنه من واجب كل أب أن يتأسى بفعل رسول الله ﷺ من رعايته بناته وتفقد أحوالهن، والإحسان إليهن.

والملاحظة التي نحب أن نسجلها في هذا المقام: أن جميع بنات الرسول ﷺ لم يتزوج عليهن ازواجهن، وربما كان ذلك من التكريم لهن، واحتراماً لرغبة في نفس رسول الله ﷺ كما سبق إيضاحه في قصة خطوبة علي رضي الله عنه.

العدل بين الأولاد:

إن إقامة العدل والقسط في الحياة، هي اولى المهمات التي كلف بها الرسل عليهم الصللاة والسلام، وقد سجل القرآن الكريم هذا الأمر بوضوح كامل في قوله تعالى: 

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ ۖ}

[الحديد: 25].

وفي مقدمة هؤلاء الرسل الكرام نبينا محمد ﷺ الذي أرسى دعائم الحق في كل ميادين الحياة. . ومن جملة ذلك عدله ﷺ بين أولاده.

______________________


1. قال ابن حجر في شرح (حدثني فصدقني) – أي أبو العاص- “لعله كان شرك على نفسه أن لا يتزوج على زينب، وكذلك فهو محمول على أن علياً نسي ذلك الشرط، فلذلك أقدم على الخطبة..” “فتح الباري” (7/ 86). والذي يبدو أن صدقه بوفائه بوعده بإرسال زينب، وربما عبر بالصدق عن حسن المعاملة والاستقامة فيها، والله أعلم.


وبما أن لم يكبر م أولاده الذكور أحد فلم يكن هناك ما ينقل لنا عن هذا الجانب، أما أولاده من البنات فلا شك بأنه ﷺ كان يعدل بينهن، وما كان ﷺ ليأمر الناس بالأمر ثم لا يطبقه في ذات نفسه وفي أسرته، حاشاه من ذلك.

قال النعمان بن بشير رضي الله عنه:  أَتَى أبي إِلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ فَقَالَ إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي – مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ – عَطِيَّةً، وإن أمه طلبت مني أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: رَسُول اللَّهِ ﷺ: (أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟) قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: (أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا؟). قَالَ: لَا.
قَالَ: (فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ).
قَالَ ﷺ: (أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟) قَالَ بَلَى.
قَالَ: (فَلَا إِذًا). وقال النعمان: فرجع أبي فرد عطيته (1).

وهكذا يتقرر من خلال هذه الواقعة أن تمييز بعض الأولاد على بعض يعد من الجور والظلم، الذي جاء الإسلام ليخلص الناس منه.

ولا يكتفي ﷺ بذلك، بل يلفت النظر إلى الآثار المترتبة على ذلك من خلل وفساد في بنية الأسرة، فالوالد عندما يقدم بعض أولاده، فإن الفريق الأخر سيخبو في نفوسهم الحب والاحترام والتقدير تجاه هذا الوالد، وهنا سيبدأ الجفاء بين الفريقين كامناً داخل النفوس، ثم يستفحل ويكبر كلما تمادى الوالد بهذا التفضيل.

وهذا ما أوضحه ﷺ بقوله: 

(أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟) 

فحتى يكونوا كذلك فلا بد من إشعارهم بأنهم سواء، ومن تحققهم أنهم أمام معاملة يتساوى فيها الجميع.

______________________

1. رواه البخاري (2586، 2650)، ومسلم (1623).


وإذا كانت الغاية (أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً) فلا يكتفي أن يكون العدل قائماً بين الأولاد في الجانب المادي فحسب، بل ينبغي أن يكون كذلك – أيضاً – في الجانب المعنوي.

فتكون الابتسامات موجهة لهم على قدم المساواة، وكذلك الكلمات الطيبة.

 وإذا كان لبعض الأولاد في نفس الوالد بعض المنزلة التي ليست لغيره لسبب من الأسباب، فينبغي على الوالد أن لا يبدي ذلك.

وعندما يجافي أحدهم لانحراف أو خطأ فيحسن أن يبين له ذلك. .

 إن قضية العدل بين الأولاد مما أمر به النبي ﷺ إحقاقا للحق، وحفاظاً على وحدة الأسرة وترابطها، واستدامة الحب والتعاطف بين أفرادها.

 احترام الأولاد وتقديرهم:

أخرج أبو داود والترمذي 

عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ فَاطِمَةَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَا”
قَالَت: “كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا” (1).

هذه الصورة التي تنقلها السيدة عائشة رضي الله عنها عن سلوكه ﷺ تجاه ابنته عندما تدخل عليه زائرة تبين مدى الحفاوة والإكرام الذين تستقبل بهما من قبل والدها ﷺ.

إنه درس – وأي درس – في التعامل مع الأبناء وكيفية تربيتهم، وأن مقام “الأبوة” لا يمنع من احترام الأبناء على قدم المساواة مع احترام الآخرين وهذا مما يرفع من حرارة الاحترام والتقدير للأب في نفوس الأبناء.

______________________


1. رواه أبو داود (5217)، والترمذي (3872).


إنها صورة تستقر في نفس القارئ لهذا الخبر، وتأخذ أبعادها فيها، لوحة فريدة، تعجز الكلمات عن وصفها، ومتى كانت الكلمات قادرة على وصف الألوان وتمازحها وتناسقها أو وصف درجة الحرارة في المشهد وحيوته؟

إنها صورة من السلوك النبوي الكريم الذي لا يوفيه حقه إلا شهادة العليم الخبير الذي قال في حقه 

{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍۢ}

[القلم: 4].

مواضيع ذات صلة