في يوم الجمعة المنصرم 19 جمادى الأولى (1440هـ) ودَّعت دمشق أحدَ علماء تحقيق التُّراث ودهاقنته المتقنين، وهو الأستاذ القدير مطاع بن توفيق بن الفقيه الحنفي عبد المجيد الطرابيشي، المولود سنة (1932م)، والمتخرِّج من جامعة دمشق ـ كلية الآداب سنة (1952م):
أَدِمَـشْــــقُ مــا نـبـأُ لـذعت بــه *** سمعي كأن حروفه جَمر
كان هذا العالم نموذجاً للدقة والإتقان، والتروِّي في البحث والتحقيق، يدرك أسلوبه وطابعه المميز من يطَّلع على تحقيقاته وبحوثه؛ فهو لا يرضى بالقليل من البحث والتتبع للنصوص المحققة، وإنَّما ينهك ما يبحثه دراسة وتمحيصاً، وقد بان ذلك في كتابه “في منهج تحقيق المخطوطات“؛ فإنه أجاد فيه على صغر حجمه أيَّما إجادة، ساق فيه أوصاف عمل المحقِّق وأدواته التي تجعله متقناً لمنهج تحقيق المخطوطات ونصوصها.
ومن أمعن النظر في أعماله العلمية وجد فيها ما ذكره من أوصاف المحقِّق الماهر، فقد حَقَّقَ الجزء (34) من “تاريخ دمشق“، وكتب له مقدمة ضافية مُزيَّناً بحواشٍ هي الغاية في الدِّقة والجودة، ومن تحقيقاته: كتاب “سؤالات الحافظ السِّلفي لخميس الحوزي” على نسخة فريدة له.
وألَّف بحثه الماتع “رواة محمد بن إسحاق في المغازي والسير” في مجلد جليل يقول في مطلعه – بعد أن ذكر خصوصيَّة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الإسناد -:
“ونضَّر الله حَفَظَةَ حديثه الشريف على كرِّ الليالي والأيام، ورحِم الله محدِّثَ الشام الحافظَ الإمامَ ثقةَ الدِّين أبا القاسم ابنَ عساكر عليَّ بنَ الحسن الدمشقيَّ الشافعيَّ، ورحمَ الله محدِّثَ الشام مِن بعدُ الحافظَ المجوّدَ جمال الدين أبا الحجَّاج المزِّيَّ يوسُفَ بنَ عبد الرحمن الدمشقيَّ الشافعيَّ؛ بما قد حملا لواء هذا العلم – العلم بالأسانيد – ورفعا منارته في أرض الشام وسائر ديار الإسلام”.
وقد كان العالم مطاع الطرابيشي مُحبًّا للحافظ ابن عساكر حتَّى إِنه كان إذا ذكره تسِيل دموعه على لحيته وتخضبها.
وهكذا كان يحثُّ الخُطى في تتبُّعه لمواطن المخطوطات ودقائقها؛ فهو بحر زخاّر بالعلم والمعارف.
ومن مصنَّفاته التي تدلُّ على صبره وجلده في التصنيف: ما جمعه من شعر “عمرو بن معدي كرب” بعد أن نسَّقه وبذل فيه جُهداً ووقتاً، وهو من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، كما أنه رحمه الله تعالى أثرى مجلة “مجمع اللغة العربية” و”مجلة التراث” بمقالات هي الروعة في مضمونها، والتي منها: “السماع بالإفادة” دراسة لهذه العبارة في كتب تراجم المحدِّثين، نشره في مجلة اللغة العربية بدمشق، وكذا “فوائد من معجم شيوخ الإمام الطبراني” وغيرهما من البحوث العلمية الهادفة.
كما أن المحقِّق الطرابيشي في آواخر عمره آثر البُعد عن الأضواء ومال إلى الخمول، كأنه يعمل بقول القائل:
“ادفن وجودك في أرض الخمول“، ومع ذلك فلم يترك العلم وكتبه ولم يضيع دقيقة من وقته، وأقبل على علم القراءات ينظر في كتبه، مُمعناً النظر فيها، ولم تخل من تعليقاته على كتب هذا الفن الذي في مكتبته، وكذا تفرغ “لمسند الإمام أحمد بن حنبل”؛ وأفاد من حوله، فمن ذلك ابنته الباحثة الدكتورة بارعة وفقها الله لمراضيه؛ حيث قالت في مقدمة فهرس موضوعات مسند الإمام أحمد بن حنبل: “وبعد، فالثناء المستطاب والإِقرار بالفضل لأستاذي الجليل العلَّامة المحقِّق والدي، فإنه هو الذي ألزمني درس المسند وأوصاني إياه”.
ومن صفات هذا العالم الجليل: معرفته لفضل أساتذته وما أفاد منهم، فهو يقول في مقدمة إحدى تحقيقاته:
“وفي الختام يسعدني أن أسجِّل مأثرة لمجمع اللغة العربية بدمشق، إذ أعان على نشر هذا الكتاب؛ وأخصُّ بالذِّكر أستاذَيَّ الكريمين: الدكتور شكري فيصل والأستاذ عبد الهادي هاشم.
أما شيخي الأستاذ أحمد راتب النفَّاخ، فما أَقْصَر عبارتي عن الوفاء بعظيم حقِّه علَيَّ؛ ولذلك أتقدَّم إليه بهذا العمل المتواضع هديةً منه وإليه”.
وإن أنس فلن أنسى تشرُّفي بزيارته في منزله في حيِّ المهاجرين بسفح جبل قاسيون في دمشق برفقة صديقي الشيخ أحمد شميس، حيث لقينا أبناؤه الكرام بالبشر والترحيب، فأنست النفس والروح بالمثول بين يدي هذا العالم المحقق الذي يستفيد من يراه من صبره ودأبه في تحقيق المخطوطات، فكان لقاءً لا ينسى.
رحمه الله، فقد مات وفي صدره علم لم يبثه، وكان آخر كلامه رحمه الله: “الحمد لله سألقى وجه ربي”.
السيرة والتاريخ والتراجم, متنوعة
9