لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ المَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ حَتَّى جَاءَ، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَنِ المَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]؟ فَقَالَ: وَاعَجَبِي لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الحَدِيثَ يَسُوقُهُ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَهْلِكِينَ، لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ-، وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَنَائِمٌ هُوَ، فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَطْوَلُ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، قَالَ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ مَشْرُبَةً لَهُ، فَاعْتَزَلَ فِيهَا، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، قُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ، أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: لاَ أَدْرِي هُوَ ذَا فِي المَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ، فَجِئْتُ المِنْبَرَ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ المَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَقُلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ، حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ المِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الغُلاَمَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا، فَإِذَا الغُلاَمُ يَدْعُونِي قَالَ: أَذِنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ، قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: طَلَّقْتَ نِسَاءَكَ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: «لاَ»، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَذَكَرَهُ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ رَأَيْتَنِي، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ-، فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ البَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ، وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: «أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ، وَكَانَ قَدْ قَالَ: «مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ» فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: إِنَّكَ أَقْسَمْتَ أَلاَ تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وَإِنَّا أَصْبَحْنَا لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأُنْزِلَتْ: آيَةُ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ، فَقَالَ: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، وَلاَ عَلَيْكِ أَلَّا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»، قَالَتْ: قَدْ أَعْلَمُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمًا} [النساء: 27]"، قُلْتُ: أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ.

[صحيح] [رواه البخاري]

الشرح

كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه حريصًا على أن يسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قول الله عز وجل: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] من هما المرأتان المقصودتان بالآية؟ وإن تتوبا أي من التعاون والتظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحج عبد الله بن عباس مع عمر بن الخطاب، فتنّحى عن الطريق المسلوكة إلى طريق لا تُسلك غالبًا ليقضي حاجته، وتنّحى عبد الله ومعه إناء صغير، فقضى عمر حاجته ثم جاء، فسَكَبَ له ابن عباس من الإناء ماءً فتوضأ، ثم سأله عن المرأتين المقصودتين في الآية، فتعجب عمر من ابن عباس كيف خفي عليه هذا الأمر مع شهرته بينهم بعلم التفسير، أو أنه تعجب من جهة حرصه على سؤاله عما لا يتنبه له إلا الحريص على العلم من تفسير ما أبهم في القرآن، ثم ذكر له أن المقصودتين بالآية هما عائشة وحفصة، و حكى عمر قصة نزول الآية، فذكر أنه كان له جارٌ من الأنصار هو أوس بن خولي بن عبد الله الأنصاري، وكانوا يسكنون في بني أمية بن زيد في القُرى التي بالقرب من المدينة، وكانا يتناوبان في النزول إلى المدينة، ويخبر بعضهم بعضًا بما نزل من الوحي وبالأحداث الكائنة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قريش لهم قوة وتحكم على نسائهم بحسب العادة والطبع، فلما جاؤوا إلى المدينة وجدوا أن نساء الأنصار يغلبن رجالهم، فليس لهم شدة وطأة عليهم، فأخذ نساء قريش يتعلمن سيرة الأنصاريات وطريقتهن في التعامل مع أزواجهن، وفي يومٍ رفع عمر صوته على زوجته، فردت عليه الجواب، فاستنكر منها ردها عليه، فقالت: مالك تستنكر ردي عليك؟ والله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليردنّ عليه الكلام، ويهجرنه طوال اليوم إلى الليل، فخاف عمر من قولها، وقال: خسرت من تفعل منهن هذا الفعل العظيم من الرد على النبي عليه الصلاة والسلام وهجرانه، فلبس ثيابه كلها، ثم ذهب إلى ابنته حفصة، وسألها: هل تُغضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم كله إلى الليل؟ قالت: نعم، قال: خابت وخسرت من تفعل ذلك منكن، وهل تأمن من تفعل ذلك أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلك، ثم أمرها ألا تطلب الكثير من النبي صلى الله عليه وسلم، وألا تراجعه وترد عليه القول، وألا تهجره ولو هجرها النبي عليه الصلاة والسلام، ومتى أرادت شيئًا من الضروريات أمرها أن تسأله، وألا تغتر بكون عائشة تفعل شيئًا من الهجران والرد، فلا يؤاخذها بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فإنها تُدِلُّ بجمالها ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، فلا تغتري أنتِ بذلك لاحتمال ألا تكوني عنده في تلك المنزلة. وكنا نقول إن قبيلة غسان تُعِدُّ العُدة لتغزو المسلمين، فنزل جاره الأنصاري يوم نوبته إلى المدينة فسمع اعتزال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زوجاته، فرجع في العشاء، فضرب باب عمر ضربًا شديدًا وقال: هل هو نائم؟ فخاف عمر من شدة الضرب وخرج إليه، فقال: حدث شيءٌ عظيمٌ، قال عمر: هل جاءت غسان؟ قال: بل أعظم من ذلك، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ويحتمل أن يكون قد جزم بذلك لوقوع إشاعة من بعض أهل النفاق لما حصل الاعتزال، فتناقله الناس، ولم تجر عادته بالاعتزال فظنوا أنه طلقهن، فقال عمر: خابت وخسرت حفصة، وخصها بالذكر لمكانتها منه؛ لكونها ابنته، ولكونه كان قريب العهد بتحذيرها من وقوع ذلك، وقال: كنت أظن وأعتقد بقرب وقوع ذلك؛ لأن المراجعة قد تفضي إلى الغضب المفضي إلى الفرقة، فلبس عمر ثيابه وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر، ودخل عليه الصلاة والسلام غرفة اعتزل فيها نساءه، فدخل عمر على حفصة فوجدها تبكي، فقال: ما الذي يبكيك؟ ألم أكن أحذرك من أن تغاضبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تراجعيه أو تهجريه، ثم استفهمها عما سمعه من طلاق النبي عليه الصلاة والسلام لهن، فقالت: لا أعلم، ها هو في الغرفة المرتفعة، فخرج عمر من بيت حفصة، وجاء إلى المنبر فوجد جماعة حوله يبكي بعضهم، فجلس معهم قليلًا ثم غلب عليه ما يجد من شغل قلبه بما بلغه من تطليقه عليه الصلاة والسلام نساءه، ومن جملتهن بنته، وفي ذلك من المشقة ما لا يخفى، فقال لغلام النبي عليه الصلاة والسلام: استأذن لي من النبي لأدخل عليه، فدخل الغلام وخرج، فأخبره أنه ذكر له استئذانه عليه، فصمت النبي عليه الصلاة والسلام، فرجع عمر إلى المنبر وفعل مثل ذلك ثلاث مرات، فلما أراد أن ينصرف، فاجأه الغلام بأن النبي عليه الصلاة والسلام أذن له بالدخول. فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فوجده راقدًا على نسيج من حصير، ليس بينه وبين الحصير شيء، وقد أثَّر الحصير في جنبه الشريفة عليه الصلاة والسلام، وكان متكئًا على وسادة محشوة بجلد مدبوغ، فسلم عليه عمر وسأله وهو قائم: هل طلقت نساءك؟ فرفع عليه الصلاة والسلام نظره وقال: لا، فقال وهو قائم لم يجلس بعد: هل أجلس؟ وكان يتأمل هل يعود صلى الله عليه وسلم إلى الرضا أو هل أقول قولًا أطيِّب به قلبه وأسكن غضبه، وقال: لو رأيتني وكنا معشر قريش نقوى على نسائنا، فلما جئنا المدينة إذا نسائهم يَغْلِبْنهم، فذكر له ما حدث بينه وبين امرأته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قوله لحفصة من ألا تغتر بكون عائشة أجمل منها وأحَبَّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً أخرى، فلما رآه عمر تبسم واستأنس جلس، ورفع بصره إلى سقف بيت النبي صلى الله عليه وسلم فما وجد غير ثلاثة جلود، فلما رأى عمر ذلك قال: ادع الله أن يوسع على أمتك، فإن فارس والروم وُسِّع عليهم، وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان عليه الصلاة والسلام متكئًا فجلس وقال: أأنت في شك يا ابن الخطاب في أن التوسع في الآخرة خير من التوسع في الدنيا، إن فارس والروم قوم قُدمت لهم طيباتهم في الدنيا فلا يجدون أي نعيم في الآخرة، فقال عمر: استغفر لي يا رسول الله عن جراءتي بهذا القول في حضرتك. فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت حفصة بذلك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اكتمي علي، فأفشت حفصة إلى عائشة فغضبت عائشة حتى حلف النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقربها شهرًا، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لن أدخل على نسائي لمدة شهر، من شدة غضبه عليهن حين عاتبه الله بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} [التحريم: 1]. والذي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلًا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت عائشة وحفصة على أن أيتهما دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، أي رائحة كريهة، فقال: لا ولكني كنت أشرب عسلًا عند زينب ابنة جحش ولن أعود له، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في الشيئين معًا، فلما مضى تسع وعشرون ليلة، دخل عليه الصلاة والسلام على عائشة فبدأ بها، فقالت له عائشة: لقد أقسمتَ ألا تدخل علينا لمدة شهر، وقد أكملنا اليوم تسعة وعشرون يومًا، كنت أعدُّها عدًّا، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أن هذا الشهر تسعة وعشرون يومًا، فنزلت آية التخيير، وبدأ عليه الصلاة والسلام بسؤال عائشة أولًا، فقال لها: سأذكر لكِ أمرًا، وليس عليك أن تسألي أبويك وتستشيرهم ولا تستعجلي بالرد، فقالت: إني أعلم أن أبواي لن يأمراني بفراقك، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الله عز وجل قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك} [الأحزاب: 28] إلى قوله {عظيما} [النساء: 27]، فقالت: وهل اسأل واستشير أبواي في هذا؟ واختارت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيّر عليه الصلاة والسلام باقي نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة.

معاني الكلمات

إداوة إناء صغير من جلد.

نغلب نحكم عليهن ولا يحكمن علينا.

طفق أخذ في الفعل وبدأ يفعل.

راجعتني رادتني في القول وناظرتني فيه.

لا تستكثري لا تطلبي منه الكثير.

أوضأ أحسن.

مشرُبة غرفة عالية.

أَهَبة جلود.

موجدته غضبه.

تستأمري تستأذني.

فوائد الحديث

جواز اليمين شهرًا ألا يدخل على امرأته، ولا يكون بذلك موليًا، لأنه ليس من الإيلاء المعروف في اصطلاح الفقهاء ولا له حكمه، وهو مختصٌ بالحلف عن الامتناع عن وطء الزوجة.

جواز دق الباب وضربه عند الحاجة.

جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهن والتفتيش عن الأحوال.

مشروعية التناوب في العلم والاشتغال به.

الحرص على طلب العلم.

قبول خبر الواحد والعمل بمراسيل الصحابة.

كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يخبر بعضهم بعضًا بما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون ذلك كالمسند، إذ ليس في الصحابة من يكذب ولا غير ثقة.

فضل عائشة رضي الله تعالى عنها.

إتيان المحدث بالحديث على وجهه بلا اختصار فيه فائدة، لأنه قد كان يكتفي حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما كان يخبره منه أنهما عائشة وحفصة.

مشروعية موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها.

الحزن والبكاء لأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يكرهه والاهتمام بما يهمه.

أن السكوت يحكم به، كما حكم عمر رضي الله تعالى عنه بسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صرفه إياه.

جواز تكرار الاستئذان.

للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف المستأذِن عليه.

تقلله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وصبره على مضض ذلك.

يُسأل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته.

قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: لا، ردًا لما أخبر به الأنصاري من طلاق نسائه، ولم يخبر عمرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر به الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ولا شكاه: لعلمه أنه لم يقصد الإخبار بخلاف القصة، وإنما هو وهم جرى عليه.

لا يجوز لأحدٍ أن يسخط حاله ولا ما قسم الله له ولا سابق قضائه، لأنه يخاف عليه ضعف يقينه.

الاستغفار من السخط وقلة الرضى.

جواز أن تعاقب المرأة على إفشاء سر زوجها، وعلى التحيل عليه بالأذى، وبالتوبيخ لها بالقول، كما وبخ الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم على تظاهرهما وإفشاء سره، وعاتبهن بالإيلاء والاعتزال والهجران كما قال تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (النساء: 43).

الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا.

المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها أو ذوي الرأي من أهلها في أمر نفسها التي هي أحق بها من وليها، كعائشة رضي الله تعالى عنها.

الدليل لجواز ذكر العمل الصالح بلا رياء وتسميع، وهي في قول عبد الله بن عباس: فحججت معه، أي: مع عمر.

جواز الاستعانة في الوضوء، إذ هو الظاهر من قوله: فتوضأ.

ضحكه صلى الله عليه وسلم التبسم إكرامًا لمن يضحك إليه، وقال جرير: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم.

جواز التخيير للمرأة، وجماهير العلماء على أن من خيّر زوجته فاختارته لم يكن ذلك طلاقًا، ولا يقع به فرقة.

التصنيفات

تفسير القرآن, الإيلاء, العهد المدني, تفسير الآيات

المراجع

صحيح البخاري (3/ 133-135) (2468)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري (13/ 21) (13/ 17)، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4/ 270)، فتح الباري لابن حجر (1/ 251) (9/ 281) (9/ 282) (9/ 282) ، النهاية في غريب الحديث والأثر (565) (976) (471) (960).