×

بيعة الرضوان

بيعة الرضوان

الفترة المدنية
السنة السادسة من الهجرة
بيعة الرضوان
627 - 628 ميلادي

(مبايعة الرسول الناس على الحرب وتخلف الجد) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن رسول الله ﷺ، قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة. فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله ﷺ على الموت، وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على أن لا نفر.

فبايع رسول الله ﷺ الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها، إلا الجد بن قيس، أخو بني سلمة، فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته. قد ضبأ إليها، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله ﷺ أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.

(أول من بايع) :

قال ابن هشام: فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن أول من بايع رسول الله ﷺ بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بأسناد له، عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي عمر: أن رسول الله ﷺ بايع لعثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى.

أمر الهدنة

(إرسال قريش سهيلا إلى الرسول للصلح) :

قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر ابن لؤي، إلى رسول الله ﷺ، وقالوا له: ائت محمدا فصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله ﷺ تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح.

(عمر ينكر على الرسول الصلح) :

فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال:

بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه، فأني أشهد أنه رسول الله، قال عمر:

وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال:

أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ قال:

أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني! قال: فكان عمر يقول:

ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق، من الذي صنعت يومئذ! مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرا.

(علي يكتب شروط الصلح) :

قال: ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله ﷺ: اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال: فقال رسول الله ﷺ: اكتب:

هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

(دخول خزاعة في عهد محمد وبني بكر في عهد قريش) :

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها.

(ما أهم الناس من الصلح ومجيء أبي جندل) :

فبينا رسول الله ﷺ يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله ﷺ، وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ خرجوا وهم لا يشكون في الفتح، لرؤيا رآها رسول الله ﷺ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع، وما تحمل عليه رسول الله ﷺ في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت، فجعل ينتره بتلبيبه، ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم، قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه. قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.

(من شهدوا على الصلح) :

فلما فرغ (رسول الله ﷺ) من الكتاب أشهد على الصلح رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص، وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.

(نحر الرسول وحلق فاقتدى به الناس) :

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ مضطربا في الحل، وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قدم إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه، فيما بلغني، في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله ﷺ قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.

(دعوة الرسول للمحلقين ثم للمقصرين) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون. فقال رسول الله ﷺ: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا:

والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين، فقالوا: يا رسول الله: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لم يشكوا.

(أهدى الرسول جملا فيه برة من فضة) :

وقال عبد الله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل، في رأسه برة من فضة، يغيظ بذلك المشركين.

(نزول سورة الفتح) :

قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله ﷺ من وجهه ذلك قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً[ 48: 1- 2].

(ذكر البيعة) :

ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه، حتى انتهى إلى ذكر البيعة، فقال جل ثناؤه:

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمن أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً [48: 10].

(ذكر من تخلف) :

ثم ذكر من تخلف عنه من الأعراب، ثم قال: حين استفزهم للخروج معه فأبطئوا عليه: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [ 48: 11] . ثم القصة عن خبرهم، حتى انتهى إلى قوله: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [48: 15] … ثم القصة عن خبرهم وما عرض عليهم من جهاد القوم أولي البأس الشديد.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: فارس. قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن الزهري أنه قال: أولو البأس الشديد حنيفة مع الكذاب.

ثم قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [48: 18- 21].

(ذكر كف الرسول عن القتال) :

ثم ذكر محبسه وكفه إياه عن القتال، بعد الظفر منه بهم، يعني النفر الذين أصاب منهم وكفهم عنه، ثم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ. بَصِيراً [ 48: 24 ]. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: هُمُ. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [48: 25].

«وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [ 48: 25]، والمعرة: الغرم، أي أن تصيبوا منهم (معرة) بغير علم فتخرجوا ديته، فإما إثم فلم يخشه عليهم.

قال ابن هشام: بلغني عن مجاهد أنه قال: نزلت هذه الآية في الوليد بن الوليد ابن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل بن سهيل، وأشباههم.

قال ابن إسحاق: ثم قال تبارك وتعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ، الْجاهِلِيَّةِ [48: 26 ] يعني سهيل بن عمرو حين حمي أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وأن محمدا رسول الله، ثم قال تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [48: 26 ]، وكانوا أحق بها وأهلها: أي التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.

ثم قال تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا [ 48: 27] أي لرؤيا رسول الله ﷺ التي رأى، أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف، يقول: محلقين رءوسكم، ومقصرين معه لا تخافون، فعلم من ذلك ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا، صلح الحديبية.

يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.

قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله ﷺ خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة، في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.

ما جرى عليه أمر قوم من المستضعفين بعد الصلح

(مجيء أبي بصير إلى المدينة وطلب قريش له) :

قال ابن إسحاق: فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم رسول الله ﷺ كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله ﷺ، وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله ﷺ بكتاب الأزهر والأخنس، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك، قال: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق، فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.

(قتل أبي بصير للعامري ومقالة الرسول في ذلك) :

فانطلق معهما، حتى إذا كان بذي الحليفة، جلس إلى جدار، وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم، قال: أنظر إليه؟ قال: انظر، إن شئت. قال: فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، وخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله ﷺ طالعا، قال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ، قال: ويحك! مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي. فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا بالسيف، حتى وقف على رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي. قال: فقال رسول الله ﷺ: ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال!

(اجتماع المحتبسين إلى أبي بصير وإيذاؤهم قريشا وإيواء الرسول لهم) :

ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص، من ناحية ذي المروة، على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون عليها إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله ﷺ لأبي بصير: «ويل أمه محش حرب لو كان معه رجال!، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص، فاجتمع إليه منهم قريب من سبعين رجلا، وكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله ﷺ تسأل بأرحامها إلا آواهم، فلا حاجة لهم بهم. فآواهم رسول الله ﷺ، فقدموا عليه المدينة.

قال ابن هشام: أبو بصير ثقفي.

(أراد سهيل ودي أبي بصير وشعر موهب في ذلك) :

قال ابن إسحاق: فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير صاحبهم العامري، أسند ظهره إلى الكعبة، ثم قال: والله لا أؤخر ظهري عن الكعبة حتى يودي هذا الرجل، فقال أبو سفيان بن حرب: والله إن هذا لهو السفه، والله لا يودى (ثلاثا)

(هجرة أم كلثوم إلى الرسول وإباؤه ردها) :

(قال ابن إسحاق): وهاجرت إلى رسول الله ﷺ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة، حتى قدما على رسول الله ﷺ يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية، فلم يفعل، أبى الله ذلك.

(سؤال ابن هنيدة لعروة عن آية المهاجرات ورده عليه) :

قال ابن إسحاق: فحدثني الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: دخلت عليه وهو يكتب كتابا إلى ابن أبى هنيدة، صاحب الوليد بن عبد الملك، وكتب إليه يسأله عن قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ[60: 10].

– قال ابن هشام: واحدة العصم: عصمة، وهي الحبل والسبب

«وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ 60: 10]

(عود إلى جواب عروة) :

قال: فكتب إليه عروة بن الزبير: إن رسول الله ﷺ كان صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاء بغير إذن وليه، فلما هاجر النساء إلى رسول الله ﷺ وإلى الإسلام، أبى الله أن يرددن إلى المشركين إذا هن امتحن بمحنة الإسلام، فعرفوا أنهن إنما جئن رغبة في الإسلام، وأمر برد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم، إن هم ردوا على المسلمين صداق من حبسوا عنهم من نسائهم، ذلكم حكم الله يحكم بينكم، والله عليم حكيم. فأمسك رسول الله ﷺ النساء ورد الرجال، وسأل الذي أمره الله به أن يسأل من صدقات نساء من حبسوا منهن، وأن يردوا عليهم مثل الذي يردون عليهم، إن هم فعلوا، ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم لرد رسول الله ﷺ النساء كما رد الرجال، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء، ولم يردد لهن صداقا، وكذلك كان يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد.

(سؤال ابن إسحاق الزهري عن آية المهاجرات) :

قال ابن إسحاق: وسألت الزهري عن هذه الآية، وقول الله عز وجل فيها:

وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ[60: 11] فقال: يقول: إن فات أحدا منكم أهله إلى الكفار، ولم تأتكم امرأة تأخذون بها مثل الذي يأخذون منكم، فعوضوهم من فيء إن أصبتموه، فلما نزلت هذه الآية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ[60: 10 ]… إلى قول الله عز وجل: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ[ 60: 10] كان ممن طلق عمر بن الخطاب، طلق امرأته قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة، وأم كلثوم بنت جرول أم عبيد الله بن عمر الخزاعية، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم، رجل من قومه، وهما على شركهما.

(بشرى فتح مكة وتعجل بعض المسلمين) :

قال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة: أن بعض من كان مع رسول الله ﷺ قال له لما قدم المدينة: ألم تقل يا رسول الله إنك تدخل مكة آمنا؟ قال:
بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا، قال: فهو كما قال لي جبريل عليه السلام. [السيرة النبوية لابن هشام 2/315 – 327]

الدروس المستفادة

  • تجديد العهد مع الله تعالى: ذلك أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله،
  • نصرة الإسلام والمسلمين ولو فردا: من المعلوم من أسباب نزول قوله تعالى:
 
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
[الفتح: 10]
أنها كانت لأجل عثمان رضي الله عنه، وبسببه وقعت هذه المبايعة، وذلك أن النبي – ﷺ – بعثه رسولا إلى أهل مكة لما اختص به من السؤدد والدين ووفور العشيرة وبلغ الرسول – ﷺ  –أنه قد قّتل، فبايع رسول الله – ﷺ  – والمسلمون له على الموت ليوافوا أهل مكة،
  • من أصول الاعتقاد أن من شهد بيعة الرضوان أنه من المبشرين بالجنة، قال رسول الله ﷺ
" لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"

وكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله ﷺ لم يبايعهم على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر، ولا شك أن نصرة رسول الله نصرة لله، والتفاني في تبليغ دعوة الله من أكبر الدواعي لرضا الله ورضا رسوله، وهذا كله يتطلب من المسلمين عقد العهود، وتأكيد المبايعة مع النبي على نصرة دينه مهما كلفهم ذلك، وقد كان ذلك، وتعاهد المسلمون وعقدوا معه بيعة الرضوان.

قال أبو منصور البغدادي: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان…”