القائمة الرئيسية

بعث الرجيع

بعث الرجيع

الفترة المدنية
السنة الرابعة من الهجرة
بعث الرجيع
625 - 626 ميلادي

طلبت عضل والقارة نفرا من المسلمين ليعلموهم فأوفد الرسول ستة، قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قدم على رسول الله ﷺ بعد أحد رهط من عضل والقارة.

(نسب عضل والقارة) :

قال ابن هشام: عضل والقارة، من الهون بن خزيمة بن مدركة.

قال ابن هشام: ويقال: الهون، بضم الهاء قال ابن إسحاق: فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله ﷺ نفرا ستة من أصحابه، وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، حليف حمزة بن عبد المطلب، وخالد بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وخبيب بن عدي، أخو بني جحجبى بن كلفة ابن عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة بن معاوية، أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.

(غدر عضل والقارة بالنفر الستة) :

وأمر رسول الله ﷺ على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فخرج مع القوم. حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز، على صدور الهدأة غدروا بهم، فاستصرخوا  عليهم هذيلا، فلم يرع القوم، وهم في رحالهم، إلا الرجال بأيديهم السيوف، قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.

(مقتل مرثد وابن البكير وعاصم) :

فأما مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه، ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فمنعته الدبر، فلما حالت بينه وبينهم [الدبر] قالوا: دعوه يمسي فتذهب عنه، فنأخذه. فبعث الله الوادي، فاحتمل عاصما، فذهب به. وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا، تنجسا، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: حين بلغه أن الدبر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته، كما امتنع منه في حياته.

(مقتل ابن طارق وبيع خبيب وابن الدثنة) :

وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي، وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة، فأعطوا بأيديهم، فأسروهم، ثم خرجوا إلى مكة، ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره، رحمه الله، بالظهران، وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة.

قال ابن هشام: فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة.

قال ابن إسحاق: فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي، حليف بني نوفل، لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه لقتله بأبيه.

قال ابن هشام: الحارث بن عامر، خال أبي إهاب، وأبو إهاب، أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، ويقال: أحد بني عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم، من بني تميم.

(مقتل ابن الدثنة ومثل من وفائه للرسول) :

قال ابن إسحاق: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له، يقال له نسطاس، إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه. واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان ابن حرب، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس في أهلي. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ثم قتله نسطاس، يرحمه الله.

(مقتل خبيب وحديث دعوته) :

وأما خبيب بن عدي، فحدثني عبد الله بن أبي نجيح، أنه حدث عن ماوية، مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت، قالت: كان خبيب عندي، حبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يوما، وإن في يده لقطفا من عنب، مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي نجيح جميعا أنها قالت: قال لي حين حضره القتل: ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل، قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فو الله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت! أصاب والله الرجل ثأره بقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي! ثم خلى سبيله.

قال ابن هشام: ويقال: إن الغلام ابنها.

قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخبيب، حتى إذا جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه، قال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال:

أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة. قال:

فكان خبيب بن عدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. قال:

ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه، قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه رحمه الله.

فكان معاوية بن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه، فاضطجع لجنبه زالت عنه.

قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث، قال سمعته يقول: ما أنا والله قتلت خبيبا، لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة، أخا بني عبد الدار، أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة، ثم طعنه بها حتى قتله.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية، وهو بين ظهري القوم، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب، وقيل: إن الرجل مصاب، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه، فقال: يا سعيد، ما هذا الذي يصيبك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت دعوته، فو الله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي، فزادته عند عمر خيرا.

قال ابن هشام: أقام لخبيب في أيديهم حتى انقضت الأشهر الحرم، ثم قتلوه-

قال: قال ابن إسحاق: وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية، كما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: قال ابن عباس: لما أصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا (هكذا)، لا هم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم! فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم، فقال سبحانه: وَمن النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [ 2: 204] أي لما يظهر من الإسلام بلسانه، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ [2: 204] وهو مخالف لما يقول بلسانه، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [ 2: 204] أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك.

قال ابن هشام: الألد: الذي يشغب، فتشتد خصومته، وجمعه: لد.

وفي كتاب الله عز وجل: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا 19: 97. قال ابن إسحاق: قال تعالى: وَإِذا تَوَلَّى [2: 205] أي خرج من عندك سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، وَالله لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [2: 205 ] أي لا يحب عمله ولا يرضاه. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ. وَمن النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله، وَالله رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [2: 206- 207] أي قد شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله، والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك، يعني تلك السرية.

قال ابن هشام: يشري نفسه: يبيع نفسه، وشروا: باعوا.
قال ابن إسحاق: وكان الذين أجلبوا على خبيب في قتله حين قتل من قريش: عكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود، والأخنس بن شريق الثقفي، حليف بني زهرة، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي، حليف بني أمية بن عبد شمس، وأمية بن أبي عتبة، وبنو الحضرمي. [السيرة النبوية لابن هشام 2/169 – 183]

الدروس المستفادة

  • أصحاب النبي ﷺ تربوا على الوفاء وعدم الغدر حتى لو تمكنوا من أعدائهم، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ﷺ [أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك]
  • إثبات حب الصحابة الشديد للرسول الله ﷺ والدفاع عنه. فحظ الصحابة من حبه ﷺ كان أتم وأوفر من غيرهم، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدْره ﷺ ومنزلته أعلم وأعرف، ومن ثم كان حبهم له - صلى الله عليه وسلم - أشد وأكبر. وقد ظهر هذا الحب في الحوار بين أبي سفيان وزيد بن الدثنة لما أحضروه لقتله، إذ قال له أبو سفيان: " أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنت في أهلك؟، فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي ". ونقل مثل ذلك عن خبيب ـ رضي الله عنه ـ.

وقد ظهر ذلك في موقف خبيب ـ رضي الله عنه ـ حينما استعار الموس من بعض بنات الحارث ليستحد وتمكن من طفلها، فخشيت عليه أمه فقال لها: " أتخشين أن أقتله؟!، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله " وهو موقف رائع يدل على سمو الأخلاق، الذي يتعلمه الناس على مر العصور من صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم أنهم قد غُدِر بهم.

وفي ذلك دلالة على مدى الحب للنبي ﷺ المتمكن في قلوب أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، ذلك الحب الذي لا يتزعزع حتى في أصعب اللحظات حرجا، وهكذا كان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ يفدون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنفسهم أن تصيبه شوكة، وهم بين يدي أعدائهم يعاينون الموت، فما أعظمه من حب أدهش أعداءهم في ذلك الوقت، حتى قال أبو سفيان ـ ولا زال يومئذ مشركا ـ قولته المشهورة:" ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدا، كحب أصحاب محمد محمدًا ".