قال ابن إسحاق: كان من حديث كعب بن الأشرف: أنه لما أصيب أصحاب بدر، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله ﷺ إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عز وجل عليه، وقتل من قتل من المشركين، كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة الظفري، وعبد الله بن أبى بكرين محمد بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وصالح بن أبي أمامة بن سهل، كل قد حدثني بعض حديثه، قالوا: قال كعب بن الأشرف، وكان رجلا من طيئ، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير، حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان- يعني زيدا وعبد الله بن رواحة- فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها.
(شعره في التحريض على الرسول):
فلما تيقن عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمي، وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنزلته وأكرمته، وجعل يحرض على رسول الله ﷺ، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش، الذين أصيبوا ببدر، فقال:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله … ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم … لا تبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من أبيض ماجد … ذي بهجة يأوي إليه الضيع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت … حمال أثقال يسود ويربع
ويقول أقوام أسر بسخطهم … إن ابن الأشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا … ظلت تسوخ بأهلها وتصدع
صار الذي أثر الحديث بطعنه … أو عاش أعمى مرعشا لا يسمع
نبئت أن بني المغيرة كلهم … خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه … ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم … في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما … يحمى على الحسب الكريم الأروع
قال ابن هشام: قوله «تبع» ، «وأسر بسخطهم» . عن غير ابن إسحاق.
(شعر حسان في الرد عليه) :
قال ابن إسحاق: فأجابه حسان بن ثابت الأنصاري، فقال:
أبكى لكعب ثم عل بعبرة … منه وعاش مجدعا لا يسمع؟
ولقد رأيت ببطن بدر منهم … قتلى تسح لها العيون وتدمع
فابكي فقد أبكيت عبدا راضعا … شبه الكليب إلى الكليبة يتبع
ولقد شفى الرحمن منا سيدا … وأهان قوما قاتلوه وصرعوا
ونجا وأفلت منهم من قلبه … شغف يظل لخوفه يتصدع
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لحسان
وقالت امرأة من المسلمين من بني مريد ، بطن من بلي، كانوا حلفاء في بني أمية بن زيد، يقال لهم: الجعادرة، تجيب كعبا- قال ابن إسحاق: اسمها ميمونة بنت عبد الله، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه الأبيات لها، وينكر نقيضتها لكعب بن الأشرف:
تحنن هذا العبد كل تحنن … يبكى على قتلى وليس بناصب
بكت عين من يبكي لبدر وأهله … وعلت بمثليها لؤي بن غالب
فليت الذين ضرجوا بدمائهم … يرى ما بهم من كان بين الأخاشب
فيعلم حقا عن يقين ويبصروا … مجرهم فوق اللحى والحواجب
(شعر كعب في الرد على ميمونة) :
فأجابها كعب بن الأشرف، فقال:
ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا … عن القول يأتي منه غير مقارب
أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة … لقوم أتاني ودهم غير كاذب
فإني لباك ما بقيت وذاكر … مآثر قوم مجدهم بالجباجب
لعمري لقد كانت مريد بمعزل … عن الشر فاحتالت وجوه الثعالب
فحق مريد أن تجد أنوفهم … بشتمهم حيي لؤي بن غالب
وهبت نصيبي من مريد لجعدر … وفاء وبيت الله بين الأخاشب
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم.
فقال رسول الله ﷺ، كما حدثني عبد الله بن المغيث بن أبي بردة من لي بابن الأشرف؟ فقال له محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فدعاه، فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال:
يا رسول الله، قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا؟ فقال: إنما عليك الجهد، فقال: يا رسول الله، إنه لا بد لنا من أن نقول: قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك. فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل، والحارث بن أوس ابن معاذ، أحد بني عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر، أحد بني حارثة، ثم قدموا إلى عدو الله كعب بن لأشرف، قبل أن يأتوه، سلكان بن سلامة، أبا نائلة، فجاءه، فتحدث معه ساعة، وتناشدوا شعرا، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يا بن الأشرف! إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عني، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا به العرب، ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب:
أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا بن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال له سلكان: إني قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك، ونحسن في ذلك، فقال: أترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا إن معي أصحابا لي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، قال: إن في الحلقة لوفاء، قال: فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله ﷺ.
قال ابن هشام: ويقال: أترهنوني نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا، وأنت أشب أهل يثرب وأعطوهم، قال: أترهنوني أبناءكم؟
قال ابن إسحاق: فحدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس. قال مشى معهم رسول الله ﷺ إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم، فقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله ﷺ إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائما لما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، قال: يقول لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب.
فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قال: هل لك يا بن الأشرف أن تتماشى إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم.
فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه، ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم، فلم تغن شيئا.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي، حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقدت عليه نار قال: فوضعته في ثنته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا. قال: فاحتملناه فجئنا به رسول الله ﷺ آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، فرجع ورجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. [السيرة النبوية لابن هشام 2/50 – 57]
الحرب خدعة، وامتلاك القوة لردع من يستخف بدين الله والمسلمين، مع مناصحتهم في البداية، وهي قوة يمتلكها ولي الأمر حصرًا، ورجاله الثقات.
أعداء الله لا خلاق لهم ولا ذمة، فحتى تبقى شجرة الإسلام ناضجة باسقة فإنه ينبغي أن تقتلع الحشائش التي تسبب لها الأضرار، فإن وجود هذه الحشائش إيقافا للنمو وتشويشا وإفساداً، لذلك أمر النبي ﷺ بقتل كعب بت الأشرف، لأنه يبلغ درجة الطغيان في الإفساد والصد عن سبيل الله، والنيل من أعراض المسلمات.