القائمة الرئيسية

مرض رسول الله ﷺ

مرض رسول الله ﷺ

الفترة المدنية
السنة الحادية عشرة من الهجرة
مرض رسول الله ﷺ
632 - 633 ميلادي

ابتدئ رسول الله ﷺ بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليال بقين من صفر أو في أول شهر ربيع الأول.

فكان أول ما ابتدئ به رسول الله من ذلك، فيما ذكر لي، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبيد بن جبير مولى الحكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي مويهبة مولى رسول الله ﷺ قال: بعثني رسول الله من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي.

فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى.

ثم أقبل علي فقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة.

قال: قلت: بأبي أنت وأمي! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة.

قال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة.

ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف فبدئ برسول الله وجعه الذي قبضه الله فيه.

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.

وإنما رواه أحمد عن يعقوب بن إبرهيم، عن

أبيه، عن محمد بن إسحاق به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الحكم بن فضيل، حدثنا يعلى بن عطاء، عن عبيد بن جبير، عن أبي مويهبة، قال: أمر رسول الله أن يصلي على أهل البقيع، فصلى عليهم ثلاث مرات، فلما كانت الثالثة قال: يا أبا مويهبة أسرج لي دابتي.

قال: فركب ومشيت حتى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة فوقف.

أو قال – قام عليهم – فقال: ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشد من الأولى، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس.

ثم رجع فقال: يا أبا مويهبة إني أعطيت، أو قال: خيرت، بين مفاتيح ما يفتح على أمتي من بعدي والجنة أو لقاء ربي.

قال فقلت: بأبي أنت وأمي فاخترنا.

قال: لأن ترد على عقبها ما شاء الله، فاخترت لقاء ربي.

فما لبث بعد ذلك إلا سبعا أو ثمانيا حتى قبض.

وقال عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رسول الله نصرت بالرعب وأعطيت الخزائن، وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل، فاخترت التعجيل.

قال البيهقي: وهذا مرسل.

وهو شاهد لحديث أبي مويهبة.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة، عن ابن مسعود، عن عائشة، قالت: رجع رسول الله ﷺ من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه.

فقال: بل أنا والله يا عائشة

وارأساه.

قالت: ثم قال: وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ قالت: قلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك! قالت: فتبسم رسول الله ﷺ ونام به وجعه، وهو يدور على نسائه حتى استعز به في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذن له.

قالت: فخرج رسول الله بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن عباس ورجل آخر عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتي.

قال عبيد الله: فحدثت به ابن عباس فقال: أتدري من الرجل الآخر؟ هو علي بن أبي طالب.

وهذا الحديث له شواهد ستأتي قريبا.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله وهو يصدع وأنا أشتكي رأسي، فقلت: وارأساه.

فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه! ثم قال: وما عليك لو مت قبلي فوليت أمرك وصليت عليك وواريتك؟ فقلت:

والله إني لأحسب لو كان ذلك لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي من آخر النهار! فضحك رسول الله.

ثم تمادى به وجعه فاستعز به وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله.

فقال العباس: إنا لنرى برسول الله ذات الجنب فهلموا فلنلده، فلدوه، فأفاق رسول الله.

فقال: من فعل هذا؟ فقالوا: عمك العباس تخوف أن يكون بك ذات الجنب.

فقال رسول الله: إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطه علي، لا يبقى في

البيت أحد إلا لددتموه إلا عمي العباس.

فلد أهل البيت كلهم حتى ميمونة وإنها لصائمة وذلك بعين رسول الله ﷺ.

ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج وهو بين العباس ورجل آخر – لم تسمه – تخط قدماه بالأرض.

قال عبيد الله: قال ابن عباس: الرجل الآخر علي بن أبى طالب.

قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: لما ثقل رسول الله واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه الارض بين عباس.

قال ابن عبد المطلب: وبين رجل آخر.

قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله – يعني ابن عباس – بالذي قالت عائشة.

فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا.

قال ابن عباس: هو علي.

فكانت عائشة زوج النبي ﷺ تحدث أن رسول الله لما دخل بيتى واشتد به وجعه.

قال: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس.

فأجلسناه في مخضب (1) لحفصة زوج النبي ﷺ، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.

قالت عائشة: ثم خرج إلى الناس فصلى لهم وخطبهم.

وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري به.

وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان بن بلال، قال هشام بن عروة، أخبرني أبي، عن عائشة، أن رسول الله ﷺ كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها.

قالت عائشة رضي الله عنها: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، وقبضه الله وإن رأسه لبين سحري ونحري، وخالط ريقه ريقي.

قالت: ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله ﷺ.

فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن.

فأعطانيه فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله ﷺ، فاستن به وهو مسند إلى صدري.

انفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال البخاري: أخبرنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني ابن الهاد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: مات النبي ﷺ

وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لاحد أبدا بعد النبي الله عليه وسلم.

وقال البخاري: حدثنا حبان، أنبأنا عبد الله، أنبأنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة، أن عائشة أخبرته أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي ﷺ عنه.

ورواه مسلم من حديث ابن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري به.

والفلاس ومسلم عن محمد بن حاتم كلهم.

[وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله ﷺ عنده لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشى لا تخطئ مشيتها مشية أبيها، فقال: مرحبا بابنتي.

فأقعدها عن يمينه أو شماله.

ثم سارها بشئ فبكت، ثم سارها فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله ﷺ بالسرار وأنت تبكين! فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارك.

فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ.

فلما توفى.

قلت لها: أسألك لما لى عليك من الحق لما أخبرتيني.

قالت: أما الآن فنعم.

قالت: سارني في الاول قال لى: إن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري فنعم السلف أنا لك.

فبكيت.

ثم سارني فقال: أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الامة؟ فضحكت.

وله طرق عن عائشة]

وقد روى البخاري عن على بن عبد الله والفلاس، ومسلم بن محمد بن حاتم، كلهم عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبى عائشة، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن عائشة، قالت: لددنا رسول الله ﷺ في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، قلنا: كراهية المريض للدواء.

فلما أفاق قال: ألم أنهكم ألا تلدوني؟ قلنا: كراهية المريض الدواء فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر

إلا العباس فإنه لم يشهدكم.

قال البخاري: ورواه ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عن النبي ﷺ.

وقال البخاري: وقال يونس عن الزهري قال عروة: قالت عائشة: كان النبي ﷺ يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم.

هكذا ذكره البخاري معلقا.

وقد أسنده الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن يحيى الأشقر، عن يوسف بن موسى، عن أحمد بن صالح عن عنبسة، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري به.

وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار، عن أبي معاوية عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال: لئن أحلف تسعا أن رسول الله ﷺ قتل قتلا أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيا واتخذه شهيدا.

وقال البخاري: حدثنا إسحاق، أخبرنا بشر بن شعيب بن أبي حمزة، حدثني أبي، عن الزهري، قال أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، أن عبد الله بن عباس أخبره أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله ﷺ؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا.

فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا! وإني والله لأرى رسول الله ﷺ سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا.

فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله ﷺ فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله ﷺ.

انفرد به البخاري.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس! اشتد برسول الله ﷺ وجعه.

فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا.

فتنازعوا – ولا ينبغي عند نبى تنازع – فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عنه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.

فأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.

وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها.

ورواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة.

ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله ﷺ وفي البيت رجال فقال النبي ﷺ: هلموا أكتب لكم كتابا

لا تضلوا بعده أبدا.

فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.

فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده.

ومنهم من يقول غير ذلك.

فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله ﷺ: قوموا.

قال عبيد الله: قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ﷺ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.

ورواه مسلم عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق بنحوه.

وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث معمر ويونس عن الزهري به.

* * * وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم.

وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عزوجل في كتابه.

وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار.

وهذا الذي كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه.

فإنه قد قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا نافع، عن ابن عمرو، حدثنا ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: لما كان وجع رسول الله ﷺ الذي قبض

فيه قال: ” ادعوا لي أبا بكر وابنه لكي لا يطمع في أمر أبي بكر طامع ولا يتمناه متمن.ثم قال: يأبى الله ذلك والمؤمنون “. مرتين.

قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون! انفرد به أحمد من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: لما ثقل رسول الله قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ” ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ” فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم.

قال: ” يأبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر “.

انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضا.

وروى البخاري عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت قال رسول الله: ” لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون.

فقال: يأبى الله، أو يدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون “.

وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله ﷺ فأمرها أن ترجع إليه.

فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت – قال: ” إن لم تجديني فأت أبا بكر “.

والظاهر والله أعلم أنها إنما قالت ذلك له عليه السلام في مرضه الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه.

وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض عليه السلام بخمسة أيام خطبة عظيمة بين فيها فضل الصديق من بين سائر الصحابة، مع ما كان قد نص عليه

أن يؤم الصحابة أجمعين.

ولعل خطبته هذه كانت عوضا عما أراد أن يكتبه في الكتاب.

وقد اغتسل عليه السلام بين يدي هذه الخطبة الكريمة فصبوا عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بالسبع، كما وردت بها الأحاديث في غير هذا الموضع.

والمقصود أنه عليه السلام اغتسل ثم خرج فصلى بالناس ثم خطبهم.

كما تقدم في حديث عائشة رضي الله عنها.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

قال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أيوب بن بشير، أن رسول الله قال في مرضه: أفيضوا علي من سبع قرب من سبع آبار شتى حتى أخرج فأعهد إلى الناس.

ففعلوا، فخرج فجلس على المنبر، فكان أول ما ذكر بعد حمد الله والثناء عليه ذكر أصحاب أحد، فاستغفر لهم ودعا لهم، ثم قال: يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.

ثم قال عليه السلام: أيها الناس إن عبدا من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله.

ففهمها أبو بكر رضي الله عنه من بين الناس فبكى وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا

وأبنائنا وأموالنا.

فقال رسول الله ﷺ: على رسلك يا أبا بكر! انظروا إلى هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدا عندي أفضل في الصحبة منه.

هذا مرسل له شواهد كثيرة.

وقال الواقدي: حدثني فروة بن زبيد بن طوسا، عن عائشة بنت سعد، عن أم ذر، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ.

قالت: خرج رسول الله عاصبا رأسه بخرقة، فلما استوى على المنبر تحدق الناس بالمنبر واستكفوا، فقال: والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة.

ثم تشهد فلما قضى تشهده كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد.

ثم قال: إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله.

فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه.

وقال: بأبي وأمي! نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا.

فكان رسول الله ﷺ هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله ﷺ.

وجعل رسول الله يقول له: على رسلك! وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا فليح، عن سالم أبى النضر، عن بشر ابن سعيد، عن أبي سعيد، قال: خطب رسول الله الناس فقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله.

قال: فبكى أبو بكر.

قال: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد، فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به.

فقال رسول الله: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام مودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر.

وهكذا رواه البخاري من حديث أبي عامر العقدي به.

ثم رواه الإمام أحمد عن يونس، عن فليح، عن سالم أبي النضر، عن عبيد بن حنين وبشر بن سعيد، عن أبي سعيد به.

وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث فليح ومالك بن أنس، عن سالم عن بشر ابن سعيد وعبيد بن حنين، كلاهما عن أبي سعيد بنحوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا هشام، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الملك، عن ابن أبي المعلى، عن أبيه، أن رسول الله خطب يوما فقال: إن رجلا خيره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها يأكل من الدنيا ما شاء أن يأكل منها، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه.

فبكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله ﷺ: ألا تعجبون من هذا الشيخ أن ذكر رسول الله رجلا صالحا خيره ربه بين البقاء في الدنيا وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه! فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله.

فقال أبو بكر: بل نفديك بأموالنا وأبنائنا.

فقال رسول الله ﷺ: ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته وذات يده من ابن أبي قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة، ولكن ود وإخاء وإيمان، ولكن ود وإخاء وإيمان.

مرتين وإن صاحبكم خليل الله عزوجل.

تفرد به أحمد.

قالوا: وصوابه ابن سعيد بن المعلى.

وقد روى الحافظ البيهقي من طريق إسحاق بن إبراهيم – هو ابن راهويه – حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث حدثنا جندب، أنه سمع رسول الله ﷺ قبل أن يتوفى بخمس وهو يقول: قد كان لي منكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قوما ممن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك.

وقد رواه مسلم في صحيحه عن إسحاق بن راهويه بنحوه.

وهذا اليوم الذى كان قبل وفاته عليه السلام بخمسة أيام هو يوم الخميس الذي ذكره ابن عباس فيما تقدم.

وقد روينا هذه الخطبة من طريق ابن عباس.

قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب – هو ابن عوانة الاسفرايينى – قال: حدثنا محمد بن أبى بكر، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر.

رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد الجعفي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به.

وفي قوله عليه السلام: ” سدوا عنى كل خوخة – يعنى الابواب الصغار – إلى المسجد غير خوخة أبي بكر ” إشارة إلى الخلافة، أي ليخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين.

وقد رواه البخاري أيضا من حديث عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء ملتحفا بملحفة على منكبيه، فجلس على المنبر فذكر الخطبة، وذكر فيها الوصاة بالأنصار إلى أن قال: فكان آخر مجلس جلس فيه رسول الله ﷺ حتى قبض – يعني آخر خطبة خطبها عليه السلام.

وقد روي من وجه آخر عن ابن عباس بإسناد غريب ولفظ غريب.

فقال البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار،

حدثنا ابن أبي قماش وهو محمد بن عيسى، حدثنا موسى بن إسماعيل أبوعمران الجبلى، حدثنا معن بن عيسى القزاز، عن الحارث بن عبد الملك بن عبد الله بن أناس الليثي، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، قال: أتاني رسول الله ﷺ وهو يوعك وعكا شديدا، وقد عصب رأسه فقال: خذ بيدي يا فضل.

قال: فأخذت بيده حتى قعد على المنبر.

ثم قال: ناد في الناس يا فضل.

فناديت: الصلاة جامعة.

قال: فاجتمعوا فقام رسول الله ﷺ خطيبا فقال: أما بعد، أيها الناس إنه قد دنا مني خلوف من بين أظهركم، ولن تروني في هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عني حتى أقومه فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقولن قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له علي أو حللني فلقيت الله عزوجل وليس لأحد عندي مظلمة.

قال: فقام منهم رجل فقال: يا رسول الله لي عندك ثلاثة دراهم.

فقال: أما أنا فلا أكذب قائلا ولا مستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي؟ قال: أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم.

قال: أعطه يا فضل.

قال: وأمر به فجلس.

قال: ثم عاد رسول الله ﷺ في مقالته الأولى.

ثم قال: يا أيها الناس من عنده من الغلول شئ فليرده.

فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله.

قال: فلم غللتها؟ قال: كنت إليها محتاجا قال: خذها منه يا فضل.

ثم عاد رسول الله ﷺ في مقالته الأولى وقال: يا أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدعو الله له.

فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إني لمنافق وإني لكذوب وإني لنئوم.

فقال عمر بن الخطاب: ويحك أيها الرجل! لقد سترك الله لو سترت على نفسك.

فقال رسول الله ﷺ: مه يابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا شاء.

ثم قال رسول الله ﷺ: عمر معي وأنا مع عمر والحق بعدي مع عمر.

وفي إسناده ومتنه غرابة شديدة.

ذكر أمره عليه السلام أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يصلى بالصحابة أجمعين،

مع حضورهم كلهم، وخروجه عليه السلام فصلى وراءه مقتديا به في بعض الصلوات على ما سنذكره وإماما له ولمن بعده من الصحابة قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وقال ابن شهاب الزهري: حدثني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، قال: لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلال للصلاة فقال: مروا من يصلي بالناس.

قال: فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا فقلت: قم يا عمر فصل بالناس.

قال: فلما كبر عمر سمع رسول الله ﷺ صوته، وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله

ذلك والمسلمون.

قال: فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس.

وقال عبد الله بن زمعة: قال لي عمر: ويحك ماذا صنعت يابن زمعة! والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرنى بذلك، ولولا ذلك ما صليت.

قال: قلت: والله ما أمرنى رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.

وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق، حدثني الزهري، ورواه يونس ابن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني يعقوب بن عتبة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن زمعة فذكره.

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبى فديك، حدثنا موسى بن يعقوب، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر، قال: لما سمع النبي ﷺ صوت عمر.

قال ابن زمعة: خرج النبي ﷺ حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: لا لا، لا يصلى للناس إلا ابن أبي قحافة.

يقول ذلك مغضبا.

* * * وقال البخاري: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبى، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال الأسود: كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها.

قالت: لما مرض النبي ﷺ مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس، وأعاد فعادوا له فأعاد الثالثة، فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس.

فخرج أبو بكر، فوجد النبي ﷺ في نفسه خفة فخرج يهادى بين

رجلين كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي ﷺ أن مكانك.

ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه.

قيل للأعمش: فكان النبي ﷺ يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر؟ فقال برأسه: نعم.

ثم قال البخاري: رواه أبو داود عن شعبة بعضه.

وزاد أبو معاوية عن الأعمش: جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما.

وقد رواه البخاري في غير ما موضع من كتابه، ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن الأعمش به.

منها ما رواه البخاري عن قتيبة، ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى، عن أبى معاوية به.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: إن رسول الله ﷺ.

قال في مرضه: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

قال ابن شهاب: فأخبرني عبيد الله بن عبد الله عن عائشة، أنها قالت: لقد عاودت رسول الله في ذلك وما حملني على معاودته إلا أني خشيت أن يتشاءم الناس بأبي بكر، وإلا أني علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبي بكر إلى غيره.

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر، عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله ﷺ بيتي.

قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

قالت قلت: يا رسول الله: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبي بكر؟ قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله ﷺ.

قالت: فراجعته مرتين أو ثلاثا.

فقال: ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف.

وفي الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير، عن أبى بردة، عن أبي موسى، عن أبيه، قال: مرض رسول الله ﷺ فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.

فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع يصلى بالناس.

قال: فقال: مروا أبا بكر يصل بالناس فإنكن صواحب يوسف.

قال فصلى أبو بكر حياة رسول الله ﷺ.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، أنبأنا زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، قال دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله ﷺ؟ فقالت: بلى، ثقل برسول الله ﷺ وجعه فقال: أصلى الناس؟ قلنا لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.

فقال: ضعوا لي ماء في في المخضب.

ففعلنا.

قالت: فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله.

قال: ضعوا لي ماء في المخضب.

ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.

قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.

قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله ﷺ لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله ﷺ إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا.

فقال: يا عمر صل بالناس.

فقال: أنت أحق بذلك.

فصلى بهم تلك الأيام.

ثم إن رسول الله ﷺ وجد خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس

لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائما ورسول الله ﷺ يصلي قاعدا.

قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباس فقلت: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله؟ قال: هات.

فحدثته فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال: سمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا.

قال: هو علي وقد رواه البخاري ومسلم جميعا عن أحمد بن يونس، عن زائدة به.

وفي رواية: فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله وهو قائم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، ورسول الله ﷺ قاعد.

قال البيهقي: ففي هذا أن النبي ﷺ تقدم في هذه الصلاة وعلق أبو بكر صلاته بصلاته.

قال: وكذلك رواه الأسود وعروة عن عائشة، وكذلك رواه الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس.

يعني بذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثني أبي، عن أبي إسحاق، عن الأرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس، قال: لما مرض النبي ﷺ أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص، فأومأ إليه النبي ﷺ، فجلس إلى جنب أبي بكر عن يساره واستفتح من الآية التي انتهى إليها أبو بكر رضي الله عنه.

ثم رواه أيضا عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم، عن ابن عباس بأطول من هذا.

وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنبي ﷺ والناس يأتمون بأبي بكر.

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس بنحوه.

وقد قال الامام أحمد حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا شعبة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: صلى رسول الله ﷺ خلف أبي بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه.

[وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح] وقال أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، سمعت شعبة بن الحجاج، عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله ﷺ في الصف.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبد الله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن رسول الله ﷺ صلى خلف أبا بكر.

وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.

قال البيهقي: وكذلك رواه حميد، عن أنس بن مالك، ويونس، عن الحسن مرسلا، ثم أسند ذلك من طريق هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن.

قال هشيم: وأنبأنا حميد، عن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ خرج وأبو بكر يصلي بالناس فجلس إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.

قال البيهقي: وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار،

حدثنا عبيد بن شريك، أنبأنا ابن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: آخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ مع القوم في ثوب واحد ملتحفا به خلف أبي بكر.

قلت: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح ولم يخرجوه.

وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس، صلوات الله وسلامه عليه.

وقد ذكر البيهقي من طريق سليمان بن بلال ويحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس، أن النبي ﷺ صلى خلف أبى بكر في ثوب واحد مخالفا بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم قال: ادع لي أسامة بن زيد.

فجاء فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها.

قال البيهقي: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة لأنها آخر صلاة صلاها، لما ثبت أنه توفي ضحى يوم الاثنين.

وهذا الذي قاله البيهقي أخذه مسلما من مغازي موسى بن عقبة، فإنه كذلك ذكر وكذا روى أبو الأسود عن عروة.

وذلك ضعيف، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم، كما تقدم تقييده في الرواية الأخرى، والحديث واحد، فيحمل مطلقه على مقيده.

ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلها مع الجماعة بل في بيته لما به من الضعف صلوات الله وسلامه عليه.

والدليل على ذلك ما قال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، وكان تبع النبي ﷺ وخدمه وصحبه، أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي ﷺ الذي توفي فيه، حتى

إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي ﷺ ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف [ثم] تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرج برؤية النبي ﷺ، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف.

وظن أن النبي ﷺ خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا ﷺ أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفى من يومه ﷺ.

وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة وصبيح بن كيسان ومعمر، عن الزهري عن أنس.

ثم قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: لم يخرج النبي ﷺ ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبى الله ﷺ (1) بالحجاب.

فرفعه، فلما وضح وجه النبي ﷺ ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي ﷺ حين وضح لنا فأومأ النبي ﷺ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى النبي ﷺ الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات ﷺ.

ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به.

فهذا أوضح دليل على أنه عليه السلام لم يصل يوم الاثنين صلاة الصبح مع الناس، وأنه كان قد انقطع عنهم لم يخرج إليهم ثلاثا.

قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر، كما جاء مصرحا به في حديث عائشة المتقدم ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت ولا يوم الأحد، كما حكاه البيهقي عن مغازي موسى بن عقبة، وهو ضعيف، ولما قدمنا من خطبته بعدها ولأنه انقطع عنهم

يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل.

وقال الزهري عن أبي بكر بن أبي سبرة، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة.

وقال غيره: عشرين صلاة.

فالله أعلم.

ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ولسان حالهم يقول كما قال بعضهم:

وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر! والعجب أن الحافظ البيهقي أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين.

ثم قال ما حاصله: فلعله عليه السلام احتجب عنهم في أول ركعة ثم خرج في الركعة الثانية فصلى خلف أبي بكر، كما قاله عروة وموسى بن عقبة، وخفى ذلك عن أنس بن مالك أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره.

وهذا الذي [ذكره] أيضا بعيد جدا، لأن أنسا قال: فلم يقدر عليه حتى مات.
وفي رواية قال: فكان ذلك آخر العهد به.وقول الصحابي مقدم على قول التابعي. [السيرة النبوية لابن كثير 4/ 443 – 469]

الدروس المستفادة

  • مكانة أمنا عائشة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فحين اشتد به المرض وهو في بيت ميمونة ـ رضي الله عنها ـ، فأخذ يسأل: أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها]
  • عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟، قال: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبْتَلى الرجلُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة، خُفِّف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشى على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة]
  • أهمية الصلاة ومكانتها: ومن ثم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ما به من شدة المرض يصلي بالناس جميع صلواته حتى قبل وفاته بأربعة أيام، وكانت وصيته التي أكد عليها كثيرا الصلاة، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كانت عامة وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حضره الموت: ((الصلاة ، الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) حتى جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغرغر صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه)). وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال:
 
((كان آخر كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم))
  • إحسان الظن بالله: عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول قبل موته بثلاث: [لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل] فحسن الظن بالله عند الموت أفضل، لأن الخوف سوط يساق به العبد، وعند الموت يأتي الشيطان يسخط العبد على ربه فيما يجري عليه، ويخوفه فيما بين يديه، ليقنطه من رحمة الله، فحسن الظن بالله والرجاء حينئذ أقوى سلاح يدفع به الشيطان..