×

إسلام أبي سفيان بن حرب

إسلام أبي سفيان بن حرب

الفترة المدنية
السنة الثامنة من الهجرة
إسلام أبي سفيان بن حرب
629 - 630 ميلادي

لما نزل رسول الله ﷺ مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: فقلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال:

فجلست على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، فخرجت عليها. قال:

حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله ﷺ، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة. قال: فو الله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، قال: يقول بديل:

هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قال: قلت: نعم، قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله ﷺ في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت:

والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله ﷺ فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، قال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله ﷺ وأنا عليها، قالوا عم رسول الله ﷺ على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟

وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله ﷺ، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء.

قال: فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله ﷺ، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله ﷺ، فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه، قال: قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله ﷺ: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، قال:

فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله ﷺ، فلما رآه رسول الله ﷺ، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا. فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق، فأسلم، قال العباس: قلت:

يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله ﷺ: يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها. قال:

فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله ﷺ أن أحبسه.

(عرض جيوش الرسول أمام أبي سفيان) :

قال: ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا يسألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان، حتى مر رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء.

قال ابن هشام: وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها.

قال ابن إسحاق: فيها المهاجرون والأنصار، رضي الله عنهم، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله: يا عباس، من هؤلاء؟ قال: قلت:

هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال:

قلت: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن.

(رجوع أبي سفيان إلى أهل مكة يحذرهم) :

قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته:

يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا:
قاتلك الله! وما تغني عنا دارك، قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. [السيرة النبوية لابن هشام 2/402 – 405]

الدروس المستفادة

    • إنزال الناس منازلهم؛ فكان النبي يجعل دار أبي سفيان رأس الشرك في الجاهلية، وسيد قومه، دار أمن للمسالمين.
    • التربية العالية المناسبة للشخص المناسب تنقله من كونه عدوا لدودا، فإذا به حبيبا ودودا، فأبو سفيان هو من دخل مكة، وهو من بَشّر بدخول الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخل إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته: (يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ..... ويلكم! فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد
    • هداية من يشاء الله هدايته، ولو بعد حين، فقد تعرّض أبو سفيان للقتل كثيرا أثناء حياته وقتاله في الغزوات ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا به لا يُقتل ويظل حيا ليسلم ويخدم دين الله.