×

بناء المسجد النبوي

بناء المسجد النبوي

الفترة المدنية
السنة الأولى من الهجرة
بناء المسجد النبوي
622 - 623 ميلادي

فأتاه ﷺ عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم ابن عوف، فقالوا: يا رسول الله. أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة، قال:

خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، لناقته: فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة، تلقاه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، في رجال من بني بياضة فقالوا: يا رسول الله: هلم إلينا، إلى العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها. فانطلقت، حتى إذا مرت بدار بني ساعدة، اعترضه سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، في رجال من بني ساعدة، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج، اعترضه سعد ابن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن رواحة، في رجال من بني الحارث ابن الخزرج فقالوا: يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال:

خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها. فانطلقت، حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار، وهم أخواله دنيا- أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو، إحدى نسائهم- اعترضه سليط بن قيس، وأبو سليط، أسيرة بن أبي خارجة، في رجال من بني عدي بن النجار، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك، إلى العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت.

حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار، بركت على باب مسجده ﷺ، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار، ثم من بني مالك بن النجار، وهما في حجر معاذ بن عفراء، سهل وسهيل ابني عمرو. فلما بركت، ورسول الله ﷺ عليها لم ينزل، وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله ﷺ واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت إلى خلفها، فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه، ثم تحلحلت وزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله ﷺ، فاحتمل أبو أيوب خالد ابن زيد رحله، فوضعه في بيته، ونزل عليه رسول الله ﷺ، وسأل عن المربد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان لي، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا.

فأمر به رسول الله ﷺ أن يبنى مسجدا، ونزل رسول الله ﷺ على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله ﷺ ليرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، ودأبوا فيه وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون:

لا عيش إلا عيش الآخره … اللهم ارحم الأنصار والمهاجره

فأقام رسول الله ﷺ في بيت أبي أيوب، حتى بني له مسجده ومساكنه، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب، رحمة الله عليه ورضوانه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي رهم السماعي، قال: حدثني أبو أيوب، قال: لما نزل علي رسول الله ﷺ في بيتي، نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له:

يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا، أن نكون في سفل البيت. قال: فكان رسول الله ﷺ في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء، تخوفا أن يقطر على رسول الله ﷺ منه شيء فيؤذيه.

قال: وكنا نصنع له العشاء، ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له بصلا أو ثوما، فرده رسول الله ﷺ، ولم أر ليده فيه أثرا. قال: فجئته فزعا، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك، ولم أر فيه موضع يدك، وكنت إذا رددته علينا، تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك، نبتغي بذلك البركة، قال: إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي، فأما أنتم فكلوه. قال: فأكلناه، ولم نصنع له تلك الشجرة بعد.

وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله ﷺ، فلم يبق بمكة منهم أحد، إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله ﷺ إلا أهل دور مسمون: بنو مظعون من بني جمح، وبنو جحش بن رئاب، حلفاء بني أمية، وبنو البكير، من بني سعد بن ليث، حلفاء بني عدي بن كعب، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة، ليس فيها ساكن.

فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول، إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بني له فيها مسجده ومساكنه، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما كان من خطمة، وواقف، ووائل، وأمية، وتلك أوس الله، وهم حي من الأوس، فإنهم أقاموا على شركهم.

وكانت أول خطبة خطبها رسول الله ﷺ، فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن- نعوذ بالله أن نقول على رسول الله ﷺ ما لم يقل أنه قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فقدموا لأنفسكم. تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا وأفضلت عليك؟ فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم خطب رسول الله ﷺ الناس مرة أخرى، فقال: إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، قد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم. [السيرة النبوية لابن هشام 1/494 – 501].

الدروس المستفادة

  • ضرورة إظهار شعائر الإسلام، وإظهارها وتعظيمها فإنها من تقوى القلوب، فأول ما أقام الرسول ﷺ بالمدينة بدأ ببناء المسجد شعيرة الإسلام العظمى.
  • مشاركة الناس أعمال الخير وعدم التعالي على أي مشاركة، مهما كان فيها من تعب وارهاق أو اتساخ للثياب، مادامت في سبيل الله، إذ شارك الرسول الصحابة في بناء المسجد، وحمل اللبن والطين على عاتقه الشريف ﷺ. إنَّ إقامة المساجد من أهمِّ الرَّكائز في بناء المجتمع الإسلاميِّ؛ ذلك أنَّ المجتمع المسلم إنَّما يكتسب صفة الرُّسوخ، والتَّماسك بالتزام نظام الإسلام، وعقيدته، وآدابه، وإنَّما ينبع ذلك من رُوح المسجد، ووحيه، قال تعالى:
 
﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾
[التوبة: 108]
وقال تعالى:  
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
[النور: 36 - 38]