×

تآمر قريش على قتل الرسول ﷺ

تآمر قريش على قتل الرسول ﷺ

الفترة المدنية
السنة الأولى من الهجرة
تآمر قريش على قتل الرسول ﷺ
622 - 623 ميلادي

أقام رسول الله ﷺ بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله ﷺ في الهجرة، فيقول له رسول الله ﷺ: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكونه.

قال ابن إسحاق: ولما رأت قريش أن رسول الله ﷺ قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله ﷺ إليهم، وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة- وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها- يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله ﷺ، حين خافوه.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما أجمعوا لذلك، واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله ﷺ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بتلة، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها، قالوا: من الشيخ؟

قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش، من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب. ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري ابن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب، وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم:

أبو جهل بن هشام. ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن بني جمح:

أمية بن خلف، ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.

فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا. قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة، ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم، فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي. والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره، فتشاوروا.

ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا. قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه. فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم. قال: فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. [السيرة النبوية لابن هشام 1/480 – 482]

الدروس المستفادة

الله عز وجل هو الذي يحفظ دينه، ويحفظ كل مكروب وكل مظلوم، المشركون دبروا وخططوا في دار الندوة، ويمكر سادة المشركين وكبراؤهم وأعوانهم، ولكن الله يفسد مكرهم ويبطل كيدهم فهو ناصر دينه لا محالة، فانصره لينصرك ولا تكن ممن يتولى فيستبدلك.

الثقة واليقين في الله، وشدة الثقة في التوكل على الله، تجعل مكر الماكرين سلما سلاما، فهم مكروا بالنبي ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وإذا بالمكافأة تصدر بأن الله ينتقم لنبيه، بأن الله يمكر بهم له، أين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل الذين يريدون إلحاق الأذى بمن يحميه الله ويحفظ، أين هم من تلك القدرة القادرة، قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط.

الصراع بين الحق والباطل: صراع قديم وممتد، وهو سنة إلهية نافذة قال عز وجل:

 
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
[الحج: 40]
 
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
[المجادلة 21]

مكر خصوم الدعوة بالدعاة: أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية -أي داعية من الدعاة إلى الله -أن يلجأ إلى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال عز وجل:

 
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)
[الأنفال: 30].

ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة، ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حيًّا أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديًّا بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمَّي الطريق عن الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة قال تعالى:

 
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)
[الأنفال: 36].