يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله ﷺ في الناس بطلب العدو، فأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله ﷺ على نفسي، فتخلف على أخواتك، فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله ﷺ، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله ﷺ مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان: أن رجلا من أصحاب رسول الله ﷺ، من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدا مع رسول الله ﷺ، قال:
شهدت أحدا مع رسول الله ﷺ، أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله ﷺ؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله ﷺ، وكنت أيسر جرحا، فكان إذا غلب حملته عقبة، ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
فخرج رسول الله ﷺ حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام:
قال ابن إسحاق: فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.
قال: وقد مر به كما حدثني عبد الله بن أبي بكر، معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة، مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله ﷺ، بتهامة، صفقتهم معه، لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم، ثم خرج ورسول الله ﷺ بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وأشرافهم وقادتهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم، فلنفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا، قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويحك! ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى أرى نواصي الخيل، قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم، لنستأصل بقيتهم: قال: فإني أنهاك عن ذلك، قال: والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي … إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة … عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة … لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم … إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية … لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة … وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة؟
قال: ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن هشام: حدثنا أبو عبيدة: أن أبا سفيان بن حرب لما انصرف يوم أحد، أراد الرجوع إلى المدينة، ليستأصل بقية أصحاب رسول الله ﷺ، فقال لهم صفوان بن أمية بن خلف: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان، فارجعوا، فرجعوا.
فقال النبي ﷺ، وهو بحمراء الأسد، حين بلغه أنهم هموا بالرجعة: والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم حجارة، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب.
وأخذ رسول الله ﷺ في جهة ذلك، قبل رجوعه إلى المدينة، معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وهو جد عبد الملك بن مروان، أبو أمه عائشة بنت معاوية، وأبا عزة الجمحي، وكان رسول الله ﷺ أسره ببدر، ثم من عليه، فقال: يا رسول الله، أقلني، فقال رسول الله ﷺ: والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول: خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير. فضرب عنقه. قال ابن هشام: وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال له رسول الله ﷺ: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم ابن ثابت، فضرب عنقه.
ويقال: إن زيد بن حارثة وعمار بن ياسر قتلا معاوية ابن المغيرة بعد حمراء الأسد، كان لجأ إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله ﷺ فأمنه، على أنه إن وجد بعد ثلاث قتل، فأقام بعد ثلاث وتوارى فبعثهما النبي ﷺ، وقال: إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا، فوجداه فقتلاه.
فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة، وكان عبد الله بن أبي ابن سلول، كما حدثني ابن شهاب الزهري، له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر، شرفا له في نفسه وفي قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله ﷺ يوم الجمعة وهو يخطب الناس، قام فقال: أيها الناس، هذا رسول الله ﷺ بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع، ورجع بالناس، قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس، أي عدو الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره. فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد، فقال: مالك؟ ويلك! قال: قمت أشدد أمره، فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره، قال: ويلك! ارجع يستغفر لك رسول الله ﷺ، قال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي. [السيرة النبوية لابن هشام 2/101 – 105]