×

معركة مؤتة

معركة مؤتة

الفترة المدنية
السنة الثامنة من الهجرة
معركة مؤتة
629 - 630 ميلادي

بعد عمرة القضاء أقام بقية ذي الحجة، وولي تلك الحجة المشركون، والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.

(بعث الرسول إلى مؤتة واختياره الأمراء) :

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله ﷺ بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس

(بكاء ابن رواحة مخافة النار وشعره للرسول) :

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله ﷺ وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله ﷺ بكى، فقالوا:

ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقرأ آية من كتاب الله عز وجل، يذكر فيها النار وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [19: 71]، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين.

قال ابن إسحاق: ثم إن القوم تهيئوا للخروج، فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله ﷺ فودعه.

قال ابن إسحاق: ثم خرج القوم، وخرج رسول الله ﷺ، حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم.

(تخوف الناس من لقاء هرقل وشعر ابن رواحة يشجعهم) :

ثم مضوا حتى نزلوا معان، من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب، من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم مل لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله ﷺ، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.

(تشجيع ابن رواحة الناس على القتال) :

قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون، للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس

(لقاء الروم) :

قال ابن إسحاق: فمضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك.

قال ابن هشام: ويقال عبادة بن مالك.

واستشهد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وأخذ الراية خالد بن الوليد.

(تنبؤ الرسول بما حدث للمسلمين مع الروم) :

قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله ﷺ، فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا، قال: ثم صمت رسول الله ﷺ حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم قال: لقد رفعوا إلي في الجنة، فيما يرى النائم، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد، ثم مضى.

(حزن الرسول على جعفر ووصايته بآله) :

قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت:

لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله ﷺ وقد دبغت أربعين منا

قال ابن هشام: ويروى أربعين منيئة- وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم. قالت: فقال لي رسول الله ﷺ: ائتيني ببني جعفر، قالت: فأتيته بهم، فتشممهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم. قالت: فقمت أصيح، واجتمعت إلي النساء، وخرج رسول الله ﷺ إلى أهله، فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم. وحدثني عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي ﷺ، قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله ﷺ الحزن. قالت: فدخل عليه رجل فقال: يا رسول الله، إن النساء عنيننا وفتننا، قال: فارجع إليهن فأسكتهن. قالت: فذهب ثم رجع، فقال له مثل ذلك- قال: تقول وربما ضر التكلف أهله- قالت: قال: فاذهب فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب، قالت: وقلت في نفسي: أبعدك الله! فو الله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله ﷺ. قالت:

وعرفت أنه لا يقدر على أن يحثي في أفواههن التراب. قال ابن إسحاق: وقد كان قطبة بن قتادة العذري، الذي كان على ميمنة المسلمين، قد حمل على مالك بن زافلة فقتله.

وكانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله ﷺ مقبلا، قد قالت لقومها من حدس، وقومها بطن يقال لهم بنو غنم- أنذركم قوما خزرا، ينظرون شزرا، ويقودون الخيل تترى، ويهريقون دما عكرا. فأخذوا بقولها، واعتزلوا من بين لخم، فلم تزل بعد أثرى حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة، بطن من حدس، فلم يزالوا قليلا بعد. فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلا.

(رجوع الجيش وتلقي الرسول له وغضب المسلمين) :

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله ﷺ والمسلمون.

قال: ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله ﷺ مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر. فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه. قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون يا فرار، فررتم في سبيل الله! قال: فيقول رسول الله ﷺ: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام: وهم أخواله، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ، قال: قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ﷺ ومع المسلمين؟ قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس يا فرار، فررتم في سبيل الله، حتى قعد في بيته فما يخرج.

قال ابن هشام: فأما الزهري فقال فيما بلغنا عنه: أمَّر المسلمون عليهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى قفل إلى النبي ﷺ.

(شهداء مؤتة) :

(من بني هاشم) :

من قريش، ثم من بني هاشم: جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن حارثة رضي الله عنه.

(من بني عدي) :

ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة.

(من بني مالك) :

ومن بني مالك بن حسل: وهب بن سعد بن أبي سرح.

(من الأنصار) :

ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وعباد ابن قيس.

ومن بني غنم بن مالك بن النجار: الحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة ابن عبد بن عوف بن غنم.

ومن بني مازن بن النجار: سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء.

(من ذكرهم ابن هشام) :

قال ابن هشام: وممن استشهد يوم مؤتة، فيما ذكر ابن شهاب:

من بني مازن بن النجار: أبو كليب وجابر، ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم.

ومن بني مالك بن أفصى: عمرو وعامر، ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى.
قال ابن هشام: ويقال أبو كلاب وجابر، ابنا عمرو. [السيرة النبوية لابن هشام 2/373 – 389]

الدروس المستفادة

    • كانت مؤتة بداية التمكين للمسلمين خارج الجزيرة العربية، وقد بشر النبي بالفتح للمسلمين بعدها وبعودة المسلمين أشد وأقوى حين اتهمهم البعض بالفرار؛ ولأهميتها والحشد لها اعتبرها البعض غزوة متكاملة وإن لم يخرج بقيادتها رسول الله.
    • مؤتة لم تكن هزيمة -كما تصور البعض -بدليل اتساع دائرة القتلى في المشركين وليس المسلمين.
    • إخلاص المقاتلين الصحابة لرسول الله في طلب الشهادة، وبينهم زيد وجعفر وابن رواحة وخالد الذي لاقى الروم وتكسرت بيده تسعة سيوف في قتلاهم فلم يجد ما يحارب به!
    • بدت رحمة الحبيب ﷺ بأصحابه؛ حين حزن لفراق الشهداء ولاطف ولدي جعفر ودعا لهما، وأمر أهله ببرهم حتى أن زوجة الشهيد ظلت في كنف أبي بكر ثم علي من بعده حماية لها.
    • صدق نبوءته حين أخبر المسلمين بأمر الشهداء ووصف مقاتلهم كرأي العين.
    • المسلم لا يطلب الموت إلا لتحقيق غاية أسمى؛ فصحيح أن المجاهدين أرادوا الشهادة وبينهم خالد بن الوليد، ولكنه لما أيقن بصعوبة النصر، اتخذ قرارا عمليًا بالانسحاب لحين إعداد العدة لملاقاة أهل الشرك؛ والذين أثبتوا أنهم عرب وعجم كانوا يخشون سيوف المسلمين