×

استعداد للمباهلة

من أدلة صدق النبي استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء (1).

والمباهلة هي الملاعنة (2)، قال في لسان العرب (3): “وباهل القوم بعضهم بعضاً وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا، والمباهلة: الملاعنة؛ ويقال: باهلت فلاناً أي: لاعنته، ومعنى المباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه: من شاء باهلته أن الحق معي”.

قال ابن حجر رحمه الله في سرده لفوائد حديث حذيفة القادم: “وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلاً لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة (4) فلم يقم بعدها غير شهرين” (5).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب: الداعي إلى الإسلام، لكمال الدين الأنباري (ص 437)، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م، وتثبيث دلائل النبوة، للقاضي عبد الجبار (2/ 426).

 

(2) انظر: مختار الصحاح (1/ 27).

 

(3) (11/ 72)

 

(4)  يعني ابن عربي.

 

(5) فتح الباري (7/ 697).


 

ودلالة هذا الوجه على النبوة من وجهين:

1- ثقة النبي ﷺ الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المخاطرة المهلكة إلا أن يعتقد اعتقاداً جازما في صدق ما يقول.

2- نكوص النصارى عن المباهلة، مما يدل على تصديقه في قلوبهم ولكنهم يعاندون.

قال تعالى له:

{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰذِبِينَ}

[آل عمران: 61]

قال ابن كثير رحمه الله: “وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوة والإلهية، فأنزل الله صدراً في هذه السورة رداً عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى نجران ستون راكباً، وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم؛ وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثة ابن علقمة وكان أسفهم صاحب مدارستهم، وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها، وشرفوه وبنوا له الكنائس، وأكرموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله ﷺ، وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله على الاستمرار في النصرانية؛ لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها، قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله ﷺ المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، فكلم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة ابن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك، فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ: “أسلما” قالا: قد أسلمنا. قال: “إنكما لم تسلما، فأسلما”، قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: “كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير”، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فواعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا النبي ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضا، فدعى أبا عبيدة فقال:

“أخرج معهم فاقض بينهم  بالحق فيما اختلفوا فيه” (1).

وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه (2) قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: “لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين”، فاستشرف له أصحاب رسول الله ﷺ فقال: “قم يا أبا عبيدة بن الجراح”، فلما قام قال رسول الله ﷺ: “هذا أمين هذه الأمة” (3).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ قَالَ فَقَالَ لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا”

(4)

فكيف لرجل كاذب أن يقحم نفسه في هذه المزلة، ويرضى أن يكون ملعوناً بلعنة الله، ومطروداً من رحمته مستوجباً الهلاك ومستعجلاً انتقام الله منه، وإلا أن كان صادقاً، عالما من صدق نفسه، واثقاً بمن أرسله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 368).

 

(2) يعني: بعد أن دعاهما النبي إلى ذلك، كما تبين من سبب النزول والأحاديث الأخرى، وانظر: فتح الباري (7/ 696).

 

(3) متفق عليه (البخاري: كتاب المغازي، باب: قصة أهل نجران، رقم (4119)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل أبي عبيدة، رقم (2420).

 

(4) أخرجه الإمام أحمد (2226) بإسناد على شرط البخاري، وأخرج البخاري الجزء الأول من الحديث إلى قوله: “لأخذته الملائكة عياناً”، كتاب التفسير، باب: قوله: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًۢا بِٱلنَّاصِيَةِ } [العلق: 15]، رقم (4958).

مواضيع ذات صلة