لا بد لنا بين يدي الموضوع من الحديث عن المعجزات باعتبارها العنوان الذي تنضوي تحته حادثة الإسراء والمعراج.
المعجزات:
عرف علماؤنا المعجزة بأنها: الأمر الخارق للعادة، الذي يجريه الله تعالى على يدي نبي مرسل، على سبيل التحدي، ليقيم به الدليل القاطع على صدق نبوته.
وقد جرت حكمة الله أن تكون معجزات كل نبي متناسبة مع عصره، الذي بعث فيه متحدية قومه بما يتفنون. ولذا كانت معجزات موسى تحدياً للسحر الذي انتشر آنذاك، وعرف السحرة قبل غيرهم – وهم خبراء المهنة – أن ما يأتي به موسى شيء آخر غير السحر فكانوا أول المؤمنين.
{فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ قَالُوٓا ءَامَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ}
سورة الشعراء: الآيات 45- 47.
وكانت معجزات عيسى تحدياً للطب الذي انتشر في عصره، فكان – بإذن الله – يبرئ الأكمه والأبرص، وكان يحيي الموتى بإذن الله.
وجاءت الرسالة الخاتمة فلم نجد فيها تعويلاً على المعجزات. وها نحن قد سرنا شوطاً لا بأس به من السيرة المباركة – حيث نتكلم في زمن حادثة الإسراء والمعراج – فلم نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للناس آمنوا بي لأني أفعل كذا وكذا. . ولكن الذي سجلته السيرة أن دعوته كانت تقوم على التذكير والوعظ والدعوة إلى نبذ الآلهة المتعددة والإيمان بالإله الواحد وكل ذلك مهمة ملقاة على العقل، يصاحب ذلك سلوك عملي للرسول الكريم لا مطعن فيه لطاعن حتى ولو كان عدواً.
كانت المادة المطروحة للنظر هي آيات القرآن الكريم، فهي المعجزة، وليس من قبيل المصادفة أن تسمى فواصل القرآن وجمله آيات، فالآية هي المعجزة، ولقد رأينا كيف استهوى القرآن القلوب حتى بات الأعداء – بل زعماؤهم – يقضون ليلهم عند بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن.
والقرآن هو المادة التي تحدى الله الناس أن يأتوا بمثلها.
{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍۢ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍۢ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَٱتَّقُوا ٱلنَّارَ. . .}
سورة البقرة : الآيتان 23- 24.
وقال تعالى:
{قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًا}
سورة الإسراء: الآية 88.
وإذا كانت المرحلة الأولى للدعوة لم تعتمد المعجزات أساساً لها، فما نعتقد أن دورها سيكون كبيراً فيما بعد، وتلك حكمة الله في الرسالة الخاتمة التي جعلت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم التطبيق العملي لها. وإذا كان هو القدوة فينبغي ألا تكون حياته قائمة على المعجزات. لأن هذه المعجزات لن تكون متوفرة في حياة الناس. . . فالإسلام تشريع الحياة الإنسانية في واقعها بكل ما فيه ولكل من فيه. فهو للفقير وللغني، للرجل وللمرأة، للصغير وللكبير، للرئيس وللمرؤوس. وهو تشريع للناس في حال أمنهم وفي سعادتهم وأزماتهم. . . في أفراحهم وفي أتراحهم. .
ومن هذا المنطلق لاحظنا تسجيل القرآن رفض الرسول لمطلب قريش في الإتيان ببعض المعجزات وكان جوابه: سبحانه ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً. .
{وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلْأَرْضِ يَنۢبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍۢ وَعِنَبٍۢ فَتُفَجِّرَ ٱلْأَنْهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}
سورة الإسراء: الآيات 90- 93.
إن ما قدمنا، لا يعني خلو حياته صلى الله عليه وسلم من المعجزات. بل إن حياته زاخرة بها ولكن الملاحظ فيها أن الله تعالى لم يجرها على يديه لتكون سبباً لإيمان كافر وإنما – في غالب الأحيان – كانت تأتي وهو بين المؤمنين به، وهي في هذه الحال من باب التكريم للرسول صلى الله عليه وسلم لا للدلالة على صدقه.
وبعد: فقد آن لنا أن نعود للحديث عن الإسراء والمعراج باعتبارهما معجزة أي أمراً خارقاً للعادة، ليس جارياً على نظام الأسباب والمسببات المعروف في دنيا الناس. . وما لم يكن كذلك فلا يسمى معجزة.
الإسراء والمعراج:
وتأتي هذه المعجزة تكريماً للرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه وزوجته وبعدما أصابه في الطائف فهي بعد العام العاشر من البعثة وقد اختلف في تحديد وقتها.
ويقصد بالإسراء الانتقال من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس. وإليه أشارت الآية الكريمة
{سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ}
سورة الإسراء: الآية 1.
كما يقصد بالمعراج الصعود إلى السماوات العلا وإليه الإشارة في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰٓ إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰٓ}
سورة النجم: الآيات 13- 18.
وليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة وإنما هناك أحاديث كل منها أشار إلى جزء أو جانب، على أنه ربما تساءل بعضهم هل هي حادثة واحدة أم هما حادثتان وبتعبير آخر هل كانا في ليلة واحدة أم في ليلتين مختلفتين؟
ويستطيع المرء إذا رجع إلى تفسير ابن كثير رحمه الله وقد جمع الأحاديث المتعلقة بالموضوع أن يلاحظ أن الحدثين – الإسراء والمعراج – وقعا في ليلة واحدة متتابعين وذلك واضح في رواية الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه حيث قال بعد أن ذكر الوصول إلى بيت المقدس (ثم عرج بي إلى السماء. . ) ويؤيدها أيضاً رواية أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم:
(رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة. . )
رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وهكذا ورد التصريح بأن المعراج كان ليلة الإسراء.
وسنحاول تلخيص معالم الحادثة اعتماداً على مجموع الروايات:
شق الصدر:
وكان ذلك بعد صلاة العشاء من تلك الليلة المباركة قال صلى الله عليه وسلم:
[فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي]
متفق عليه (خ 349، م 163).
الإسراء:
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
[أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَبْت الْفِطْرَةَ ثُمَّ عَرَجَ بِي. .]
رواه أحمد ومسلم برقم (162/ 259).
وبينت رواية أخرى أن الصلاة كانت بالأنبياء
(ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليه السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة)
ابن جرير، ورواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة.
المعراج:
ثم عرج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء يستفتح جبريل ثم يُسأل ومن معك؟ فيقول: محمد – فيرحب به. . . فرأى في السماء الدنيا آدم وفي الثانية عيسى ويحيى وفي الثالثة يوسف وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، ثم ذهب به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى وفرض الله عليه خمسين صلاة. فلما نزل انتهى إلى موسى حيث سأله: ما فرض ربك على أمتك؟ فأخبره. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. . وخفف الله عنه خمساً – ثم ما زال بين موسى راجعاً إلى ربه حتى كانت خمس صلوات وطلب موسى منه الرجوع فقال: (قد سألت ربي حتى استحييت – فنادى مناد: قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي).
العودة:
الذي يظهر من الروايات أن طريق العودة كان إلى بيت المقدس ثم إلى مكة فقد ورد في رواية الترمذي عن شداد بن أوس: (. . ثم انصرف بي فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة).
كانت وسيلة الإسراء البراق: بينما في المعراج استعملت الروايات الفعل المبني للمجهول (عرج) فلم تبين الوسيلة وفي بعضها: نصب لي المعراج قال ابن كثير: وهو السلم فصعد فيه إلى السماء (1)، ولم يكن الصعود على البراق كما توهمه بعضهم.
موقف قريش:
إن موقف قريش كان واضحاً، فقد كذبوه وهو يتحدث عن البدهيات التي لا ينكرها ذو عقل فماذا نتوقع أن يكون موقفه تجاه هذه المعجزة؟
عرف صلى الله عليه وسلم أن الناس سوف يكذبونه فجلس حزيناً معتزلاً، فمر به أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له – مستهزئاً -: هل كان من شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم) قال: وما هو؟ قال: (إني أُسرى بي الليلة). قال: إلى أين؟ قال: (إلى بيت المقدس). قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: (نعم).
فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم). فقال: يا معشر بني كعب بن لؤي. . فانفضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدث قومك بما حدثتني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إني أُسري بي الليلة إلى بيت المقدس) قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: (نعم) فمن مصفق، ومن واضع يده على رأسه متعجباً للكذب، قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد – وفيهم من قد سافر إليه – فجعل ينعته لهم – وقد رُفع له وهو ينظر إليه – فقال القوم: أما النعت فقد أصاب!
أخرجه أحمد والبيهقي والنسائي.
وفي رواية أخرى:
فقال القوم، بعد أن سمعوا مقالته، هذا والله الأمر البين، والله إن العير لتطرد شهراً من مكة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة، وارتد ناس كثير ممن كان أسلم .
سيرة ابن هشام 1/ 398
وأخبر أبو بكر فقال: والله لئن كان قاله لقد صدق، وما يعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فهذا أبعد مما تعجبون منه، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن وصفه، وكلما ذكر شيئاً قال: صدقت. أشهد أنك رسول الله . . فقال صلى الله عليه وسلم: (وأنت يا أبا بكر الصديق) فيومئذ سماه الصديق (2).
الآراء في الإسراء والمعراج:
هل كان الإسراء والمعراج في اليقظة أم في المنام؟ وهل كان بجسمه صلى الله عليه وسلم وروحه، أو بروحه فقط؟
- ذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أن الإسراء والمعراج كانا ببدنه وروحه يقظة لا مناماً في ليلة واحدة (3).
- وقالت عائشة رضي الله عنها: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه (4).
- ورأى بعض المتأخرين أنها نوع من الإشراق الروحي.
- وحاول بعضهم أن يقرب الحادثة ويقيسها على بعض منتجات التقدم العلمي، ولذا فهو يرى إمكانيتها.
- إن رأي عائشة مخالف لقول الجمهور، كما نقل ذلك كثير من المفسرين منهم الطبري والنسفي ونكتفي هنا بنقل ما جاء في كتاب الشفا للقاضي عياض رحمه الله “وأما قول عائشة (ما فقدت جسده) فعائشة لم تحدث عن مشاهدة لأنها لم تكن حينئذ زوجه ولا في سن من يضبط. . فليس حديث عائشة رضي الله عنها بالثابت والأحاديث الأخر أثبت” (5).
- فلو كانت الحادثة مناماً لم يكن حاجة لاستنكار قريش وردة بعض المسلمين. بل لم يكن فيها من الإعجاز شيء.
- أما الذين قالوا بروحه فقط فمتى كانت الروح تقوم بذاتها دون الجسد ثم هل كانت الروح بحاجة إلى البراق وإلى المعراج. . (6).
ثم ألا يحسن بنا أن نعود إلى آيات النجم نقرؤها ثانية
{وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰٓ إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ. . .}
هل يكون تعبير مثل هذا للنوم أو للحالة الروحية؟ ومتى كان البصر من حواس الروح؟ وكيف يمكن ضبطه حتى لا يزيغ ولا يطغى وهو في حالة النوم؟
- أما الذين اعتبروا الحادثة نوعاً من الإشراق الروحي – فهؤلاء كأنهم وجدوا قدرة الله تعالى وكأنها لا تستطيع إنتاج مثل هذه الحادثة في عالم المادة، أي عالم الجسم والروح معاً.
- بقي فريق أخير قانع بأن الحادثة وقعت يقظة: روحاً وجسداً ويحاول أن يبرهن على إمكانية ذلك مستشهداً بما أنتجه العلم الحديث من الصعود إلى القمر ومحاولة الوصول إلى الكواكب الأخرى حتى وصل في حديثه إلى درجة يشعر القارئ معها أنه لن يطول الوقت حتى تصبح إمكانية الإسراء والمعراج ممهدة لمن يريدها.
وهنا لا بد من وقفة يسيرة: إن العلم استطاع تقريب مفهوم الحادثة ولكنه في الوقت نفسه أعطاها بُعدها في العظمة والرفعة إذ جعل استحالتها على غير قدرة الله ليست قائمة على التصور فحسب وإنما على الأرقام والحسابات.
أذكر أني استمعت إلى ندوة إذاعية لبعض علماء الفضاء إثر النجاح العلمي الباهر الذي صعد فيه الإنسان إلى القمر. . وطرح عليهم السؤال الآتي: هل يتوقع أن يصل الإنسان إلى المجرات الأخرى؟ وكان الجواب: إن هذا الأمر مستحيل بناء على المعطيات العلمية. ذلك: لو أن افترضنا وجود إنسان – مصنع ومهيأ – ليستطيع جسمه تحمل السرعات الهائلة – وهذا غير ممكن – وانطلق هذا الإنسان في صاروخ سرعته سرعة الضوء – وهذه غير ممكنة – لاحتاج إلى عمر يساوي 200.000 سنة ضوئية وهي المدة الكافية للذهاب إلى أقرب مجرة والعودة منها. . .
أرأيت إلى هذه الاستحالات المتتابعة:
– استحالة وجود إنسان يستطيع جسمه تحمل سرعة الضوء.
– استحالة – مبدئياًً – وجود صاروخ ينطلق بهذه السرعة فالسرعات المستعملة حتى الآن مقياسها سرعة الصوت (7).
– استحالة وجود إنسان يعيش مائتي ألف سنة.
– ونضيف إلى هذا أن عالم الكواكب والمجرات هو دون السماء الدنيا
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ}
{إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ}
فأين منها السماء السابعة وما فوقها، وإذا فالعلم كما قلنا يقرر استحالة الحادثة. ويبقى الحديث عنها حديثاً عن قدرة الله تعالى.
كلمة أخيرة في المناقشة:
وكلمة أخيرة: إن الذين أنكروا وجود الحادثة يقظة روحاً وجسداً إن إنكارهم ناشئ عن استغراب الحادثة – كما فعلت قريش – يشبههم في هذا أولئك الذين حاولوا تقريب الحادثة فلولا استغرابهم لها لم يفعلوا ذلك.
ونتساءل ما غرابة أمر من صفاته الأولية أنه خارق للعادة؟ ولو لم يكن كذلك لم يكن معجزة ولم يكن مستغرباً. فلو كان مناماً أو ارتقاء روحياً أو ذهنياً لم تكن له أية قيمة.
إن الحادثة لم تقم على أساس من القوانين الخاضعة لمعرفة البشر، ولئن كانت الحادثة طياً للبعد الأول – بعد المكان – فهي طي أيضاً للبعد الثاني – بعد الزمن – حيث أمكن القيام بأعمال كثيرة في وقت يسير أي طويت مدة الزمن اللازم لإنجاز عمل ما: وهذا إنما كان بقدرة الله تعالى. وحينما نرجع الأمر إليها تنتهي جميع الإشكالات.
لنريه من آياتنا:
وإذا أردنا أن نتعرف على جانب من حكمة الإسراء والمعراج كان علينا أن نرجع إلى النصين الكريمين اللذين تحدثا عن الموضوع. ففي آية الإسراء قال تعالى:
{. . . لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ}
وفي سورة النجم قال تعالى:
{مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰٓ}
. إن التعليل واضح، وهو إطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض آيات الله، وقد وصفها الله بأنها كبرى. وهذا فيما يبدو تكريم من الله عز وجل لخاتم الرسل وارتفاع بمنزلته على غيره، ولا غرو فهو كمال البناء وقد أكد موسى عليه السلام، هذا المعنى حينما بكى – بعد أن تجاوزه رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقيل له: ما يبكيك قال: أبكي أن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي (8). كما يؤيده: إمامته صلى الله عليه وسلم في الصلاة وقد ائتم به المرسلون (9).
نقول: إنه غاية التكريم حيث لم يكن تلبية لطلب منه مسبق كما حصل ذلك من قبل لسيدنا إبراهيم عليه السلام حيث قال:
{أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ۖ . . .}
سورة البقرة: الآية 260.
وكما حصل لموسى عليه السلام حيث قال:
{رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ}
سورة الأعراف: الآية 143
ونقول: إنها تكريم لأن هذه المعجزة ليس فيها مواصفات المعجزات الأخرى كما أنها لا تهدف إلى ما تهدف إليه.
– فليس المراد منها التصديق. فقد رأينا حزنه صلى الله عليه وسلم لما كان يتوقعه من تكذيب قريش وهذا ما حصل بالفعل.
– وليس المراد التحدي، فهم أقل من ذلك شأناً، وقد جرت سنة الله في تحدي الأنبياء لأقوامهم أن يكون في أطار ما يتقن أقوامهم حتى تكون الحجة دامغة.
– وليس المراد تلبية طلبهم حينما قالوا
{أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ}
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع ذلك وقد رأينا كيف كان جوابه
{سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا}.
قطعت الدعوة من عمرها أكثر من عشر سنوات في جهاد دائم وعمل غير منقطع وكفاح لا يعرف الملل. . والطريق ما زال في بدايته وما زال شاقاً وصعباً. . فكانت رحلة استجمام في رحاب الله تعالى تلتقط فيه الأنفاس وتستجمع القوى لمتابعة الطريق.
على قدر عقولهم:
في جميع روايات حديث الإسراء والمعراج اتفاق على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث قريشاً حينما خرج إليها إلا حديث الإسراء، ولم يذكر لهم شيئاً عن المعراج. فما هي الحكمة؟
إن الإسراء حدث أرضي، انتقال من مكان إلى آخر، والمكان الآخر يعرفه كثير منهم ممن زاروا بيت المقدس. فهناك إمكانية البرهنة لهؤلاء عن طريق الوصف لذلك البيت، وهم الذين يعرفون حياته صلى الله عليه وسلم تفصيلاً ويعرفون أنه لم يسبق له زيارة ذلك البيت.
لقد انتهى الضحك والتصفير والتمايل ووضع الأيدي على الرؤوس حينما قال له أحدهم: صف لنا بيت المقدس. . وأخذ صلى الله عليه وسلم يصف ويصف حتى قال قائلهم: أما الوصف فصدق.
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل ذكر لهم مشاهداته في الطريق حينما سألوا فقالوا: ما آية ذلك: فقال:
(آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا. فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام. ثم أقبلت حتى إذا كنت بصحنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياماً، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان. وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان، إحداهما سوداء والأخرى برقاء)
البداية 3/ 110 من رواية ابن إسحاق.
فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم. وسألوهم عن الإناء فأخبروهم بما أخبرهم به صلى الله عليه وسلم، وسألوا الآخرين عن البعير الذي ند فقالوا: نعم وسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه.
وهكذا تحول الهرج والضحك والصفير إلى تعجب. ولكن ذلك لم يدفعهم إلى الإيمان.
وهكذا كانت براهين عقلية حسية. كما كان لأبي بكر رضي الله عنه برهانه الآخر: “إن كان قاله فقد صدق” ويقيس ذلك على نزول الوحي.
أما المعراج فإن الأدلة العقلية والحسية غير متوفرة له. ذلك أنه يحتاج إلى دليل من نوع آخر: يحتاج إلى التسليم الذي يسبقه الإيمان. ولذا لم يحدث به صلى الله عليه وسلم قريشاً. فهو جزئية لا بد أن يسبقها الإيمان. فكما أنه صلى الله عليه وسلم ما كان ليحدث قريشاً عن الصلاة – وهي لم تؤمن بعد – كذلك لا حاجة لها في حديث المعراج والإيمان غير متوفرة لديها. وقد ألمحت آيات سورة النجم إلى ذلك. قال تعالى:
{وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَىٰ}
إنه التسليم والتصديق. إنه الدرس الذي وعاه أبو بكر رضي الله عنه، “إن كان قاله فقد صدق”.
الصلاة:
فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج أمراً مباشراً من الله تعالى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم دون واسطة وحي. وفي هذا ما فيه من الدلالة على أهميتها بين أركان الإسلام بعد كلمة الإخلاص. فجميع الأوامر نزل بها جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا الصلاة فقد عُرج بالرسول الكريم ليتلقى الأمر بها دون واسطة.
إنها فواصل في رحلة العمر يقف بها العبد بين يدي الله تعالى معلناً عن عبوديته بلسانه وقلبه وعمله
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}
هذه العبودية التي تعني رفع الرأس عالياً فلا أرباب غير الله ولا متصرف في الكون ولا فاعل فيه غير الله . . . فإذا سها العبد عن هذه المعاني في وقت ما، كانت الصلاة وسيلة النظافة من هذه الأدران التي علقت به (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) (10) ويعود إلى النظافة ويتابع رجلة الحياة.
على أن الصلاة ليست عملاً آلياً وحركات متتابعة دون وعي أو إدراك لما يقرأ أو يذكر فيها. . إنها حتى تؤدي دورها في النظافة لا بد أن تكون وفق مواصفات محددة
[مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ]
رواه مسلم برقم (228).
إنها الشعار الذي يعلنه المسلم كل يوم خمس مرات. كاشفاً فيه هويته رافعاً بذلك رأسه. مبيناً بسلوكه أثر هذه العبادة في حياته مبرهناً للناس
{إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۗ }.
– عظمة الرسالة في فعل الرسول هذا.
إن إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور الرسالة لا يتوقف على استشارة أحد أو أخذ رأي من أحد، لأنه إعلان عن حقيقة. ومن هذا المنطلق كان علم أبي جهل بالخبر قبل علم أبي بكر.
ونستطيع هنا أن ندرك بعضاً من شجاعته صلى الله عليه وسلم التي دونها بكثير شجاعة الأبطال في ميادين القتال – وله صلى الله عليه وسلم الريادة فيها – إنه كان على ثقة من تكذيب القوم له. . ومع هذا لم يتخذ الوسائل، ولم يهيء الأسباب لطرح الحادثة، لم يعلم أبا بكر والمؤمنين أولاً ليكونوا مساعدين له ومصدقين إذا ما كذبه القوم. وهو أمر لا غضاضة فيه لو فعل. . إنه منطق العظمة ينبعث من الرسالة العظيمة.
ثم لم لا نقول: إنه الأسلوب الرصين في اختيار إيمان المؤمنين.
بلاء وتمحيص:
لئن كانت المعجزات – في أصل وضعها – وسيلة للدعوة إلى الإيمان؛ فإن معجزة الإسراء كانت وسيلة لتنقية الصف من الضعفاء وإسقاط الذين هم على حرف في التزامهم الإسلام – على الرغم من عدم وجود المغريات يومئذ – ففي حديث البيهقي “. . . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه” (11).
قلنا – فيما سبق-: إن المؤمنين الأوائل كان عليهم أن يجتازوا بعض الاختبارات بين الفينة والأخرى، ولقد استطاعت العقيدة حتى الآن أن تبرهن أنها أقوى من كل روابط النسب. . . وأقوى من العصبية، كما برهنت بعد ذلك أنها أقوى من الارتباط بالأرض. . وكانت الهجرة هي البرهان على ذلك.
واليوم والرسول صلى الله عليه وسلم يبحث جاداً عن مكان يقيم فيه قاعدة للدعوة ليقوم البناء الشامخ، كانت تنقية هذه القاعدة ضرورة ماسة، فالأحجار القابلة للتفتت تحت عمليات الضغط العالي ينبغي إخراجها من الآن، وكان لا بد من دخولها المختبر، وكان المختبر حادثة الإسراء.
إن عمليات الإرجاف والتكذيب التي وضعتها قريش في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مؤثرة بعض الأحيان، وعميقة في أحيان أخرى، وإذا لم يكن المؤمنون يتمتعون بالثقة المطلقة برسولهم، والإيمان الكامل بصدقه في كل ما يقوم فلن يستطيعوا أداء دورهم في ما ينتظرهم من أعمال ومهام.
وكان الإسراء تمحيصاً للصق واستخراجاً للشوائب. وتابع المؤمنون الصادقون مسيرتهم برعاية الله موقنين بقوله تعالى:
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ. . .}
1. البداية والنهاية. وقال ابن إسحاق في روايته، قال صلى الله عليه وسلم: (لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئاً قط أحسن منه).
2. المصدر السابق 1/ 399. والحاكم في المستدرك 3/ 62 من حديث عائشة في كتاب معرفة الصحابة.
3. نقل هذا صاحب فتح الباري وقال: وتواترت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة. ولا ينبغي العدول عن ذلك إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل. (الفتح: كتاب مناقب الأنصار باب حديث الإسراء).
4. ابن هشام 1/ 399.
5. الشفا 1/ 372.
6. تفسير الطبري، وابن كثير.
7. سرعة الصوت هي 330م في الثانية بينما سرعة الضوء هي 300.000 كلم في الثانية
8. من حديث الإمام أحمد عن أنس عن مالك بن صعصعة. وفي حديث البخاري فقال موسى: رب لم أظن أن ترفع علي أحداً.
9. رواه مسلم عن أبي هريرة بقوله: (فحانت الصلاة فأممتهم).
10. رواه مسلم برقم (668) ومعنى غمر: كثير.
11. عن تفسير ابن كثير في مقدمة سورة الإسراء. وانظر أيضاً: ترتيب مسند أحمد للبناء 20 ص 263 المسمى بـ (الفتح الرباني).