حضر موسم الحج، ومن البداية أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيسعى جاهداً في تبليغ دعوته وعرضها على من تسمح له الفرصة بلقائه خلال أيام الموسم، وفطنت قريش لذلك في الوقت المناسب، فاجتمع نفر منهم إلى الوليد بن المغيرة – وكان ذا سن فيهم – فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً. ويرد بعضكم قول بعض.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.
قال: بل أنتم فقولوا أسمع.
قالوا: نقول: كاهن.
قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون.
قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول: شاعر.
قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول: ساحر.
قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل. وأقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وأخيه، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.
وأنزل الله في الوليد قوله:
{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّآ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأيَٰتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُۥ صَعُودًا إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَٰذَآ إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}
سورة المدثر: الآيات 11- 26
واندفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله لمن لقوا من الناس. ومهما يكن من أمر فإن العرب في ذلك الموسم صدروا بأمر رسول الله فانتشر ذكره في البلاد كلها.