×

الخطأ في التأسي

انتهج بعض المتصوفة التزام الفقر والبعد عن الدنيا، بحجة التأسي برسول الله ﷺ في ذلك.

وهو مسلك خاطئ بعيد عن الصواب، فقد استعاذ ﷺ من الفقر، وما كان الفقر ليكون غاية تقصد في يوم من الأيام، والإسلام يرى أن اليد العليا خير من اليد السفلى.

وقد رأينا في الفصل السابق، كيف لام علي رضي الله عنه عاصم بن زياد على زهده، وكيف اعترض عليه عاصم بقوله: فعلام اقتصرت أنت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن..؟

فقال علي رضي الله عنه: إن الله افترض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بالعوام لئلا يشنع على الفقير فقره. .

إن علياً رضي الله عنه، لا يصحح خطأ عاصم وحده، وإنما يصحح هذا المسار كله. ومن هنا نفهم كم استمر هذا الخطأ وشاع. . وكرسه بعض المتصوفة بجهلهم وبُعدهم عن العلم.

الأمر الثاني الذي يقرره علي رضي الله عنه: هو أن هذا المسلك خاص بأئمة العدل لاعتبارات كثيرة منها: حتى لا يشنع على الفقير فقره، إذا رأى نفسه في وضع يماثل وضع الخليفة.

وإذن: فالتزام الفقر، والتأسي به ﷺ في ذلك مطلوب في كل وقت من شخص واحد في الأمة، هو شخص الخليفة، ومن بيت واحد، هو بيت الخليفة.

وأما الذين يحاولون سلوك هذا الطريق، وليسوا في موقع قيادة الأمة، فهم جهلة لأنهم يضعون الأمور في غير مواضعها. .

وهذه المسألة من دقائق العلم، التي غابت عن كثير من الناس.

قال الإمام ابن الجوزي: قال الإمام أحمد: أكره التقلل من الطعام، فإن أقواماً فعلوه فعجزوا عن الفرائض.

قال ابن الجوزي: وهذا صحيح، فإن المتقلل لا يزال يتقلل حتى يعجز عن النوافل ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير كان يفعله.

وقال: وقد كان النبي ﷺ يأكل ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل، وما نقل أنه امتنع من مباح (1).

وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان معتدلاً في طعامه، قال أبو هلال: “قلما دخلنا على الحسن إلا وقد رأينا قدراً يفوح منه ريح طيبة” (2).

وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج، والحمل المشوي، ويقول: إن الدابة إذا أحسن إليها عملت (3).

هذا ما كان عليه السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو محكوم بقوله ﷺ:

 

(ثُلُثُ طَعَامٍ وَثُلُثُ شَرَابٍ وَثُلُثٌ نَفْس) (4).

وخلاصة القول:

إن فقه التأسي به أمر واجب. وما حدث من انحرافات إنما منشؤه الجهل، ووضع الأمور في غير مواضعها الصحيحة.

______________________

1.”صيد الخاطر” الفصل (19).

2.”سير أعلام النبلاء” (4/ 584).

3. “صيد الخاطر” الفصل (31).

4. رواه الترمذي (2380).

 

 

مواضيع ذات صلة