×

الصبر هو العدة

 

لم يكن تغيير الواقع الجاهلي وتحويله إلى واقع مسلم بالأمر اليسير، إنه يحتاج إلى الجهد الكبير، والإرادة القوية.

وهذا الجهد لا يمكن المضي في بذله إلا إذا تدربت إرادة صاحبه على التحمل، وعلى الصبر فهو العدة دائما في بلوغ الأهداف الكبيرة.

والصبر ليس موعظة تستمع، أو درساً يحفظ، إنه مواقف تختبر بها صلابة الإرادة، وقوة تحملها في الميادين المختلفة.

ولذلك كان التدريب عليه يحتاج إلى فترة من الزمن، ينتقل الإنسان فيه من موقف إلى آخر أشد منه وهكذا. .

وهذا ما يفسر لنا تأكيد القرآن المكي على الأمر بالتزام الصبر في وقت مبكر: “ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات. . لا بد من الصبر في هذا كله، لا بد من الصبر على الطاعات ، والصبر عن المعاصي، والصبر على جهاد المشاقين لله، والصبر على الكبد بشتى صنوفه، والصبر على بطء على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس، وضلال القلوب، وثقلة العناد، ومضاضة الإعراض. .” (1).

____________________

 

1. في ظلال القرآن 1/ 141.


 

لقد وقفت الجاهلية بكل قوتها، وبكل طغيانها، في وجه هذه الدعوة، واستعملت كل الوسائل للصد عن سبيل الله. . كل ذلك يحدث والدعوة ما تزال في مهدها. . فكان لا بد أن تكون العدة في مواجهة هذا الطاغوت في تربية الإرادة بالصبر لتستطيع المضي في الطريق حتى يتحقق أمر الله في إقامة هذا الدين.

ولا شك بأن الإنسان المؤمن ينتابه الضعف عندما يطول الزمن ويبطء الوصول إلى النتائج. . فكانت آيات الصبر بمثابة محطات تقوية تشحذ الهمة وتدفعها إلى المضي في الطريق مرة أخرى وبعزم قوي.

ولا شك بأن القضية البارزة في مكة على مسرح الأحداث، هي ما تعرض له المؤمنون من الإيذاء والابتلاء على أيدي المشركين، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم بمنجاة من ذلك.

ولذلك كان الحث على الصبر تنزل به الآيات بأساليب متنوعة، منها ذكر ما أصاب الرسل من البلاء وكيف صبروا عليه.

 

{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰٓ أَتَٰهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِى ٱلْمُرْسَلِينَ. .} (1).

ولقد كان الاستهزاء من الوسائل الأولى التي قاوم بها المشركون الدعوة، ذلك أنه يثبط الهمم، وتضيق به الصدور، والقرآن يعرض لذكر الأنبياء السابقين وما أصابهم في هذا الجانب ليكون ذلك تسلية للنبي ﷺ وللمؤمنين:

 

{وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍۢ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ} (2).

____________________

 

1. سورة الأنعام: الآية 34.

2. سورة الأنعام: الآية 10.


 

{وَإِذَا رَءَاكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا . . . وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍۢ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ} (1).

إنه طريق النبوات ولا بد من الصبر.

وإذا كان الاستهزاء لم يعرقل سير الدعوة، فقد لجأ الكفر إلى اتخاذ وسائل أخرى تعتمد على التأثير النفسي من الوصف بالسحر والجنون والشعر. . وكانت الآيات الكريمة تنزل لتسليته صلى الله عليه وسلم، ودعوته إلى الصبر على ما يقولون. . ولكثرة هذه الأقوال وتداولها بين الكافرين. . تكرر التذكير بالصبر على ذلك مرة بعد مرة:

 

{فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. .} (2)

{ٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُۥدَ. .} (3)

{فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. .} (4)

 

وكلما طالت المعركة مع الكفر نزلت الآيات لتطمئن الرسول والمؤمنين أنهم على الحق، وأن عليهم الصبر على متابعة الطريق. . 

 

{وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيْكَ وَٱصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ. .} (5)

{فَٱصْبِرْ ۖ إِنَّ ٱلْعَٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ . .} (6)

{فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلْإِبْكَٰرِ} (7)

 

___________________

 

1. سورة الأنبياء: الآيات 36- 41.

2. سورة ق: الآية 39.

3. سورة ص: الآية 17.

4. سورة طه: الآية 130.

5. سورة يونس: الآية 109.

6. سورة هود: الآية 49.

7. سورة غافر: الآية 55.


 

{فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (1)

{وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ } (2)

{فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (3)

 

وآيات. . وآيات تحث المؤمنين على الصبر، وتجعله صفة لازمة لهم ينالون عليها الأجر عند الله تعالى.

ففي سورة الفرقان بعد وصف عباد الرحمن: {أُولَٰٓئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَٰمًا} (4)

وفي سورة العصر: {وَتَوَاصَوْا بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ} (5)

وفي سورة البلد: {ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِٱلْمَرْحَمَةِ } (6)

وفي سورة الزمر: {إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍۢ} (7)

لقد امتد نزول آيات الصبر على طول الفترة المكية يقود خطوات المؤمنين خطوة بعد خطوة، فتدربوا على تحمل المشاق وتحمل الأذى، وضبط الإرادة، وألا تكون تصرفاتهم ردود فعل، كما تدربوا على الالتزام بما يرد عن الله تعالى. . والانضباط مع أوامر رسوله ﷺ. .

____________________

 

1. سورة غافر: الآية 77.

2. سورة الطور: الآية 48.

3. سورة الروم: الآية 60.

4. سورة الفرقان: الآية 75.

5. سورة العصر: الآية 3.

6. سورة البلد: الآية 17.

7. سورة الزمر: الآية 10.


وفي ضوء ما سبق تظهر حكمة من حكم منع القتال في مكة “إنه كان يراد تطويع نفوس المؤمنين من الغرب للصبر امتثالاً للأمر، وخضوعاً للقيادة، وانتظاراً للإذن، وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم. . وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة، والخفة للهيجاء عند أول داع. . ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته، وحمزة بن عبدالمطلب في فتوته، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل، أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة، وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله ﷺ، وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم:

 

{كُفُّوٓا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا ٱلزَّكَوٰةَ} (1). .

ومن ثم وقع التوازن. . في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم” (2).

ولما كانت القضية قضية تربية وإعداد، فإن المربي هو الذي يستطيع تقدير مقياس النجاح، وإلى إي مستوى وصل تلاميذه. .

وفي ضوء ذلك نستطيع فهم حديث خباب رضي الله عنه؟ قال:

 

(شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (3).

إن خباباً رضي الله عنه كان واحداً من الطليعة التي عذبت في الله، وفي البخاري أنه كان اكتوى سبعاً في بطنه. . (4)

____________________

 

1. سورة النساء: الآية 77.

2. في ظلال القرآن 1/ 185.

3. رواه البخاري برقم 3612.

4. رواه البخاري برقم 6430.


فهو يشكو من مرار البلاء، ولكن المربي الكريم صلى الله عليه وسلم كان واضحاً لديه أن الأمر لم يستكمل عملية الإعداد له، وأنه ما زالت اختبارات على المؤمنين أن يمروا بها. ثم طمأنه إلى النتيجة وهي تمام ذلك الأمر الذي هو قيام الإسلام، بعد أن هون عليه من مصابه إذا قيس بما ذكره النبي الكريم عن مصاب الدعاة في الأمم السابقة. . 

إنه لا ينبغي إغفال عامل الزمن في أي عملية تربوية، يضاف إلى ذلك مقدار التجارب المطروحة على مسرح الأحداث، ونوعية تلك التجارب.

مواضيع ذات صلة