×

القرآن المكي

القرآن المكي هو الآيات والسور التي نزلت بمكة قبل الهجرة، فالهجرة هي الفاصل بين ما عرف بالقرآن المكي والقرآن المدني أو الآيات المكية والآيات المدنية. وقد استمرت المدة التي نزلت فيها الآيات في مكة ثلاثة عشر عاماً.

كان الموضوع الرئيس الذي عالجته هذه الآيات (1) هو أمر العقيدة. وبخاصة: تقرير وحدانية الله تعالى. والدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر وكان السبيل الذي سلكه القرآن لتقرير ذلك هو دعوة العقل إلى التفكر والتأمل بعيداً عن هوى النفس، وبعيداً عن ضغط المجتمع وسلوك طريق الآباء والأجداد. إن هذه القضية لا يصلح فيها التقليد ولا بد أن تأخذ أبعادها في النفس عن طريق العقل والفكر حتى لا يكون ثمة مجال لزعزعتها أو التأثير فيها.

وفي سبيل ذلك كان لا بد من تحديد قيمة الآلهة الأخرى – غير الله تعالى – حتى يكون الإنسان على بصيرة من أمره:

{قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ ٱلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ}

سورة الأحقاف: الآية 4.

. كما كان من الضروري بيان زيف وضلال كل عقل أعرض عن التسليم بواحدانية الله تعالى ولو كان عقل الآباء والأجداد الذين لهم في العادة التقدير والاحترام.

إن الكثير من الناس ضلوا بذلك

{قَالُوٓا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا}

سورة إبراهيم: الآية 10.

{فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍۢ مِّمَّا يَعْبُدُ هَٰٓؤُلَآءِ ۚ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبْلُ ۚ }

سورة هود: الآية 109.

{قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}

سورة الشعراء: الآيات 71- 73.

 

وإذا كان للعقيدة تاريخ، فهو تاريخ الإنسان نفسه منذ وجد. . . وقد تناول القرآن المكي هذا الجانب بالتفصيل فكان الحديث عن الأنبياء والرسل السابقين وبيان موقف أقوامهم منهم وأنها مواقف متشابهة. كما كانت دعوة هؤلاء المرسلين واحدة. . إنها الدعوة إلى عبادة الإله الواحد.

ومن خلال قصص الأنبياء بين القرآن منهج العقيدة بكل تفصيلاتها وهي تعيش في دنيا الناس وواقعهم لا في عالم النظريات والأحلام والخيال. وبين مستلزمات الإيمان من السلوك والخلق القويم والإرادة الصلبة. . كما بين خلال ذلك خط الانحراف عن منهج الله. . وأوضح سماته وزيفه.

على أننا نلمح إضافة إلى ما سبق اهتمام القرآن الكريم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتسجيل قسط كبير من مناقشة قومه له وإعراضهم عنه وما وضعوا في سبيله من عراقيل وقد أخذ ذلك مساحة لا بأس بها من الآيات التي نقلت أقوال المشركين ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالسحر والكهانة والجنون والكذب. . والاستهزاء به ثم الرد عليهم. . وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء السابقين وما لا قوة من أقوامهم. وهي المهمة الثانية لقصص الأنبياء في القرآن (2).

وقد يسأل سائل: إذا كان القرآن هو دستور الدعوة العالمية، فما فائدة أن يأخذ هذا الجانب – وهو جانب تاريخي – ذلك الجزء الكبير من مساحة القرآن؟

 والجواب: إن الناس بالنسبة لدعوة الله بين مصدق ومكذب والمكذب مهما تغير الزمن وتغير المكان فعقليته واحدة وافتراءاته واحدة وافتراضاته واحدة. قد يتغير الشكل الخارجي لها ولكن الحقيقة تبقى هي هي. والقرآن إذ يسجل كل مواقف العناد والإلحاد والتكذيب بالتفصيل إنما يسجل مواقف تتكرر.

إن القرآن المكي – خاصة – يرمي إلى تأكيد حقيقة مهمة، وهي بيان شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وإزالة كل إشكال حولها. ومهما تطاول الزمن وتقدم الفكر المسير شيطانياً. . فلن يخرج معه أكثر مما أنتجه كفار مكة من تلك الافتراءات – على هذه الشخصية الكريمة – ثم ردها القرآن جميعاً. . ليقرر حقيقة الرسول ومهمته.

وإذا تقرر وضع الرسول واتضحت مهمته أمكن حينئذ من خلاله وبواسطته إيصال كل الأوامر والمعاني لتتقبل بالعقل والقلب معاً، بغية تنفيذها والالتزام بها.

إن القرآن في مكة سجل إفلاس الفكر الجاهلي، واستوعب كل مفترياته، ورد عليها حتى اضطر المشركون إلى الاستعانة بالفكر المستورد من أهل الكتاب علهم يجدون حجة للتكذيب. . ثم أفلست طريقتهم تلك. . حيث أجابهم القرآن على أسئلتهم. . ولم يكتف بهذا بل تحدث القرآن مسبقاً عما يمكن أن يستعين به المشركون من الفكر الفلسفي. . وطرح اعتراضاتهم قبل أن يقولوها وأجاب عليها. قال تعالى:

{سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍۢ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍۢ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ ۖ . .}

سورة الأنعام: الآية 148.

ومضى القرآن في تقرير الحقائق يطرحها للناس جميعاً. فأما المؤمنون فإن هذه الحقائق تأخذ مكانها من قلوبهم وأفئدتهم لتستقر فيها إلى الأبد. وأما غيرهم فإنه تطرق مسامعهم بحيث لا يستطيعون رد نفوسهم عن الاقتناع بها، وإن كانوا في الظاهر يجحدونها

{وَجَحَدُوا بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ}

سورة النمل: الآية 14.

فلما زال سلطان الباطل وطواغيته من النفوس الضعيفة لم تكن على جهل بما جاء به القرآن.

إن القرآن وهو يسجل هذا الأخذ والرد. . والإنكار والتقرير. . إنما يسجل موقف الجاهلية دائماً. ويسجل الحقيقة في مقابل الزيف وهكذا تظل الحقيقة في متناول الجميع.

ولهذا تطل معرفة الجاهلية أمراً ضرورياً. فهي الخصم اللدود للإيمان وما لم يعرف الإنسان خصمه لا يستطيع اتقاء شره. .

وهكذا كانت مهمة القرآن المكي بناء الفرد المؤمن – الذي به ينهض المجتمع الإيماني – بناء عملياً من خلال التعامل مع الجو الجاهلي والفكر الجاهلي. . محاولاً بيان زيفه انطلاقاً من معطيات الإيمان التي كانت تنزل وحياً من السماء آيات بعد آيات وسورة بعد سورة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. تعدل الآيات المكية ضعفي الآيات المدنية تقريباً.
  2. لاحظت أن القاعدة العامة في القرآن المكي – باستثناء المفصل منه – أن أكثر السور تبدأ بالحديث إلى الرسول أو الحديث عنه. . كما تنتهي بخطابه بأمر ما

مواضيع ذات صلة