×

الوضع الاجتماعي طبقات الناس

(أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) وقال له: (طَفُّ الصَّاعِ طَفُّ الصَّاعِ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح).

(أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) وقال له: (طَفُّ الصَّاعِ طَفُّ الصَّاعِ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح).

كان الناس يوم بعث رسول الله ﷺ طبقات، يتعالى بعضها على بعض، فالعربي يرى لنفسه الفضل على العجمي، والقرشي يرى لنفسه الفضل على غيره من العرب، والرجل يتعالى على المرأة، والأبيض يرى لنفسه الفضل على الأسود.

وكان من مهمته ﷺ إزالة هذه الفوارق والحواجز بين الناس، ولم يكن من السهل التغلب على هذه المعضلة، الضاربة جذورها عبر الأجيال، فولد في ظلها الصغير، ونشأ عليها الكبير، ودان بها معظم الناس، حتى باتت عرفاً سائداً لا يكاد ينكره أحد.

وفي مثل هذه الحال لم يكن من الممكن التخلص من هذا المرض الاجتماعي بالسرعة المطلوبة، واقتضت الحكمة أن تكون معالجته على مراحل وشيئاً فشيئاً.

وتبدأ معالجة هذا المرض في نفس الإنسان منذ اليوم الأول الذي يعلن إسلامه فيه، حيث يعلن عبوديته لله تعالى، ويتعلم أن كل الذين أعلنوا إسلامهم هم مثله عبيد الله تعالى، وبهذا يصبح هو وإياهم على قدم المساواة بغض النظر عن العرق واللون والجنس..

على أن هذا لم يكن كافياً، فكان النبي ﷺ يتعهد أصحابه بالتسديد والتقويك كلما ظهرت بادرة تنم عن أن آثار المرض ما زالت باقية.

وبدأت الخطوات العملية تأخذ طريقها إلى الواقع، فالواقع العملي لا يعالج بالأقوال فحسب، فها هو صلى الله عليه وسلم يزوج زينب بنت جحش – وهي القرشية – زيد بن حارثة، وهو هو ﷺ يقول: (سلمان منا أهل البيت)، وها هو ﷺ يمنع مولاه أبا رافع من العمل على جمع الصدقات، ويجعل حكمه حكم آل النبي ﷺ ويقول له: (مولى القوم أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة).

إنها قيم ومفاهيم جديدة تحل مكان العصبية والطبقية. .

– فالمؤمن أخو المؤمن، وإنما المؤمنون أخوة.

– والمسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله. .

– ويخاطب ﷺ المسلمين فيقول في الأرقاء:

(إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ. .)

فجعل من رقيق الإنسان أخاً له.

– وقال ﷺ:

(مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ).

كل تلك الأمور كانت تهدف إلى أمر واحد، هو الوصول بالفرد المسلم إلى شعوره بأنه ليس أفضل من غيره، وأن يكون هذا الشعور نابعاً من ذاته وليس مفروضاً عليه.

وفي تقرير ذلك جاء قوله تعالى:

 

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}

[الحجرات: 13].

 

ويستوقفنا النداء بــ {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ} في هذه الآية الكريمة، وهي في سورة قصيرة قد ورد الخطاب يها بـ {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا} خمس مرات، وذلك لأنها تقرر أمراً إنسانياً عاماً يعرفه كل الناس. . فكلهم يرجع إلى أب واحد وهو آدم عليه السلام، وتعدد الشعوب بعد ذلك وتفرعها إلى قبائل لا يغير من حقيقة وحدة الأصل.

وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي لأحد أن يتعالى على أحد أو يترفع عليه، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الآدمية سواء، والتفاضل إنما يكون بالعمل الصالح وهو التقوى. على أن هذا الفضل نفسه لا يعطي مرتبة وشرفاً في الدنيا، وإنما الجزاء عليه عند الله يوم القيامة. لأن حقيقة العمل الصالح لا يعرفها إلا الله تعالى.

ولقد استقرت هذه المعاني في مجتمع الصحابة، وعاشها الناس حقائق في دنيا الواقع يرعى تطبيقها الرسول الكريم ﷺ.

وبما أن الصحابة بشر من البشر ينتابهم الخطأ، ويستفزهم الغضب بعض الأحيان فيخرجهم عن طبعهم المعتاد، فقد وقعت من بعضهم بعض التجاوزات في هذا الميدان، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقومها ويسدد المسار.

قال أبو ذر رضي الله عنه – كما جاء ذلك في “الصحيحين”-:

إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) قال: على حال ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: (نعم) (1).

وتفصيل الحادثة كما جاءت في غير “الصحيحين”:

إن أبا ذر تجادل مع رجل أسود، فلما برح به الغضب قال له: يا ابن السوداء، فشكا الرجل ذلك إلى النبي ﷺ، فقال لأبي ذر:

(أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ) وقال له: (طَفُّ الصَّاعِ طَفُّ الصَّاعِ، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى، أو بعمل صالح).

وكانت هذه الواقعة درساً بليغاً لأبي ذر ولكل الصحابة، لما رأوا من غضبه ﷺ.

كانت السنوات العشر التي قضاها صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل وفاته كافية للتخلص من أدران الجاهلية في هذا الأمر وغيره، ولما كانت خطبة حجة الوداع كان لا بد من الحديث عن هذا الموضوع الذي يقوم عليه الواقع الاجتماعي.

وهذا ما جاء في قوله ﷺ:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ)؟ قَالُوا: نعم. . 

إنه تقرير لما كان قائماً، وتذكير للسامعين بالاستمرار على هذا النهج، ومنهج للأجيال القادمة كي تسير عليه.

_______________________

1. رواه البخاري (30، 6050) ومسلم (1661).


لم يعد النفاخر بالآباء والأجداد والأعراق منقبة أو فضيلة، وإنما المناقب بالأعمال الصالحة. وهذه أيضاً ليست محل تفاخر لأن أجرها عند الله تعالى، والعمل الخالص لله تعالى لا يعلنه صاحبه ولا يتعالى به على الناس. ولكنه إذا عُرف في الناس وشاع، وذكر الناس صاحبه بخير فتلك عاجل بشرى المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا السياق قول عمر – وهو من هو -: أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا.

كلمة يقولها أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين، في سياق نسبة الفضل لأهله، فلأبي بكر سابقته بالإسلام، ولبلال – مؤذن رسول الله ﷺ – الذي أعتقه أبو بكر، سابقته بالإسلام، ومن هنا جاءت السيادة لهما كما يرى عمر، رضي الله عنهم جميعاً.

وما كنا نتخيل أو يخطر ببالنا أن يضدر ذلك عن عمر، وبخاصة في حق بلال رضي الله عنهم جميعاً لولا هذا الإسلام العظيم.

هذا مع العلم بأن أبا بكر وبلالاً لا يرغبان في سماع ذلك فضلاً عن ادعائه.

إنها تربية هذا الرسول الكريم ﷺ قد آتت ثمارها يانعة. . وعاش الناس إسلامهم كما أراد الله سبحانه وتعالى.

مواضيع ذات صلة