×

بعث أسامة

استقر ﷺ  في المدينة بعد عودته من حجة الوداع فأقام بها بقية ذي الحجة والمحرم – حيث بدأت السنة الحادية عشرة للهجرة – وصفر. وفي آخره ندب الناس لغزو الروم.

ودعا أسامة فقال: (سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش. . . وأسرع المسير تسبق الخبر، فإن ظفرك الله بهم فأقل اللبث فيهم).

وبدأ برسول الله ﷺ  وجعه، فعقد اللواء لأسامة بيده، فأخذه فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف، وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيد وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم.

فتكلم في ذلك قوم منهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي، فرد عليه عمر وأخبر النبي ﷺ ، فقام رسول الله ﷺ  فقال: (إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل. وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده) (1).

ومرض رسول الله ﷺ  ثم اشتد به الوجع فقال: (أنفذوا جيش أسامة)، فلما ثقل رسول الله ﷺ  أقام الجيش بالجرف ينتظر ما يؤول إليه أمره ﷺ .

وتستوقفنا تلك التربية العالية الرفيعة، حيث ينضوي تحت لواء جيش يقوده فتى، كبار المهاجرين والأنصار، وأصحاب السابقة في الفضل، لا يرون في ذلك غضاضة أو نزولاً بقدرهم.

ذلك أن العمل الذي يقومون به، إنما يبتغون به رضوان الله تعالى، وقد تعلموا من أوامر الله تعالى طاعة أولي الأمر، والطاعة لا تكون حقيقية فيما تحبه النفوس فقط بل فيما تحبه وتكرهه.

وإذا كانت الغاية رضوان الله تعالى، فالغاية أن يحصل المقصود الذي يسعى إليه سواء تحقق بوسيلة أو بأخرى، وهمر بسمع نقد الأمير الذي عينه ﷺ  فما يصبر حتى يبلغ الأمر للرسول ﷺ  فيؤكد أن هذا القائد الفتي خليق بالإمارة، وإذا كان خليقاً لها فما هي الغاية من نقده؟

إن الطاعة لله وللرسول وأولي الأمر من المسلمين أمر حتمي، فهم القصد أم لم يفهم وعرفت الحكمة أم لم تعرف.

_______________________

1- متفق عليه (خ 3730، م 2426).

 

ومما يؤكد هذا المنطلق ما فعله أبو بكر من إنفاذ هذا الجيش بعد وفاته ﷺ ، وقد كانت رغبة الكثيرين عدم إنفاده لتغير الموقف العسكري بسبب الردة، ولكن الصديق أبى أشد الإباء وقال: “والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله ﷺ  ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين” (1).

وكان في إنفاذ الجيش كل البركة والخير، فكان لا يمر بقبيلة تريد الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم. ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم. . . فلما لقوا الروم وهزموهم ورجعوا سالمين ثبتت تلك القبائل على الإسلام.

إن هذه الواقعة بمقدار ما تحمل من الدلالة على نبوة الرسول ﷺ ، وفضل الالتزام بأمره، بمقدار ما تحمل من بيان فضل أبي بكر الذي آثر تنفيذ الأمر مهما كانت الظروف وذلك درس في الطاعة يعطيه أبو بكر لكل أجيال المسلمين يتعلمون من خلاله معاني الانضباط والثبات، وتلك أولية من أوليات بناء الأمم (2).

_______________________

1- البداية 6/ 304- 305.

2- ذكرت بعض الروايات أن عمر بن الخطاب راجع أبا بكر بشأن تغيير أسامة واستبداله بأمير آخر تلبية لرغبة بعض الأنصار، وأن أبا بكر قال له بعد أن أخذ بلحيته: ثكلتك أمك يا أبن الخطاب.


وهذا لا يثبت فعمر هو الذي أوصل الخبر إلى رسول الله ﷺ  عن أولئك الذين كرهوا قيادة أسامة، وصعد الرسول ﷺ  المنبر بناء على ذلك وقال ما قال مما ذكر قبل قليل، فكيف يقبل أن يكون وسيطاً في أمر كهذا؟

مواضيع ذات صلة