ومع حلول الموسم كان عدد المسلمين وافراً في يثرب، فلم يبق بيت إلا وفيه مسلمون أو فيه حديث عن الإسلام. وتذكر هؤلاء حال الرسول ﷺ في مكة فقالوا: حتى متى نترك رسول الله ﷺ يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فعزم عدد منهم على الحج مع قومهم وكان عددهم يربو على السبعين. وكان مصعب بن عمير قد سبقهم راجعاً إلى مكة يحمل معه بشرى الخير.
وكان الموعد مع رسول الله ﷺ بالعقبة من أوسط أيام التشريق فلما كانت تلك الليلة، نام القوم في رحالهم، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجوا من رحالهم فرادى يتسللون تسلل القطا مستخفين، لم يوقظوا نائماً ولم ينتظروا غائباً – تنفيذاً لأمر الرسول ﷺ – واجتمع القوم في الشعب عند العقبة وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان هما: نسيبة بنت كعب المازنية، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة.
وجاء رسول الله ﷺ ومعه عمه العباس – وهو يومئذ على دين قومه – إلا أنه أحب أن يوثق لرسول الله ﷺ.
وكان العباس أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج:- وهي تطلق على الأوس والخزرج – إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
قالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
وتكلم رسول الله ﷺ فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، وشرط لربه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم) (1).
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.
فاعترض أبو الهيثم بن التيهان – والبراء يتكلم – فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً – يعني اليهود – وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: (بل الدم الدم والهدم الهدم (2)، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم).
ثم قال ﷺ: (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً ليكونا كفلاء على قومهم – ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم – وأنا كفيل على قومي).
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 442.
(2) كلمة كانت العرب تقولها عند عقد الحلف.
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، فلما قاموا يبايعونه أخذ بيده أسعد بن زرارة وقال: رويداً يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله فقالوا: أمط عنا يدك، فوالله ما نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
أما النقباء، فمن الخزرج.
أسعد بن زرارة رافع بن مالك عبادة بن الصامت
سعد بن الربيع البراء بن معرور سعد بن عبادة
عبدالله بن رواحة عبدالله بن عمرو بن حرام المنذر بن عمرو.
ومن الأوس:
أسيد بن حضير سعد بن خيثمة رفاعة بن عبد المنذر
وتمت البيعة في هذا الجو الإيماني الخالص قابلين كل ما يقوله الرسول ﷺ عارفين تبعاته، مقدرين ما يحتاج إليه من بذل للنفوس قبل الأموال وما كلمة البراء إلا التأكيد لهذا المعنى. . . ويسيطر الحب للرسول ﷺ على النفوس فيتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فهل عسيت إن أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ إنه وهو الذي لم يذهب إليهم بعد ويعضهم لم يجتمع به ولم يره إلا في ذلك الموطن – لم يعودوا يتصورون فراقه. . ليس هناك شيء غير الإيمان يفعل ذلك. . وتبسم ﷺ وطمأنه. .
وكانت كلمة أسعد بن زرارة – والرجال على وشك أن يضعوا أيديهم في يد رسول الله مبايعين – توثيقاً للبيعة وتأكيداً لحق رسول الله. ولم يكن أسعد وحده هو الذي تكلم بهذا المعنى بل تكلم به العباس بن عبادة فقال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. . . كان الجميع يريد توثيق البيعة وتأكيدها في أعناق القوم.
في هذا الجو كان الإيمان يملأ النفوس حتى شعرت أنها في سبيل حماية رسول الله ﷺ لها القدرة، من الآن وقبل أن ترجع إلى يثرب، على أن تقاتل دونه من يقف في سبيلها كائناً من كان. قال العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً. بأسيافنا فقال ﷺ: (لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم).
وفي الصباح غدت جلة قريش إلى منازل الأوس والخزرج فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا. وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
فانبعث مشركوا القوم يحلفون بالله ما كان من هذا شيء. . . – وقد صدقوا فلم يعلموه – والمسلمون ينظر بعضهم إلى بعض، وجعل عبد الله بن أبي بن سلول يقول: هذا باطل، ما كان هذا، وما كان قومي ليقتاتوا علي بمثل هذا.
وانتهى الموسم وغادر القوم مكة، ثم إن الخبر صح عند قريش فخرجوا في طلبهم. فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو. ثم إن المنذر أعجزهم ومضى وقبضوا على سعد. فقالوا: أنت على دين محمد؟ قال: نعم. فأتوا به مكة يضربونه ويسحبونه بشعره، ثم إنه بإشارة من أبي البحتري بن هشام صرخ بجوار المطعم بن عدي والحارث بن حرب – وكان يجير لهما – فأتيا وأطلقاه من يد القوم.
من نتائج البيعة:
كان لهذه البيعة آثارها البعيدة في تاريخ الدعوة، وسنلاحظ ذلك خلال الأحداث التي تلت ذلك، ولكننا هنا نريد الحديث عن الآثار القريبة:
1- لم يكن في نصوص البيعة ذكر للقتال وإنما منع رسول الله ﷺ مما يمنعون منه أهلهم. وفهم الجميع أن ذلك يقتضي بداهة القتال فهم إنما يمنعون أهلهم باستعمال السلاح وبدا هذا واضحاً في كلام من تكلم.
– ففي كلام البراء: فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة. .
– وفي كلام أبي الهيثم: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها. .
– وفي كلام أسعد: إن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف.
– وفي كلام العباس بن عبادة: إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا.
إنها بيعة تقدم فيها الأرواح والأموال، والجزاء الجنة.
2- إن ملاحقة المشركين من أهل مكة لأهل يثرب بعد انتهاء الموسم يؤكد أن عداء المشركين لم يكن محصوراً ضد أبناء بلدهم وإنما هو عداء الشرك للإيمان والكفر للتوحيد. هذا العداء الذي لا بد له من القوة التي يركن إليها الإيمان. وعاد المسلمون من أهل يثرب وهم مقدرون عظم المسؤولية التي كان لهم شرف حملها. وكانوا أهلاً لها.
3- وعلى صعيد المدينة: رجع من كان بالموسم من أهل يثرب إليها وأظهر المسلمون إسلامهم بها بعد أن كان فريق كبير منهم يكتم إسلامه. وسعوا جاهدين في الدعوة إلى الله.
4- أما في مكة فقد شدد المشركون القبضة على المسلمين، بعد أن عرفوا ما كان من أمر البيعة، وضيقوا على الصحابة وأتعبوهم ونالوا منهم. ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى. . فشكوا إلى رسول الله ﷺ فأمرهم بالهجرة إلى يثرب وقال لهم: (إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها).
وخرج المسلمون أرسالاً. . عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفراً من أصحاب النبي ﷺ.
وهكذا تتابع المسلمون في الوصول إلى يثرب حتى لم يبق في مكة إلا رسول الله ﷺ وأبو بكر وعلي – وقد أقاما بأمره ﷺ – يضاف إليهم من احتبسه المشركون كرهاً.
وخلت دور المسلمين من أهلها. . . ومر عتبة بن ربيعة والعباس وأبو جهل على واحدة منها وهي دار بني جحش فنظر إليها عتبة، تخفق أبوابها يباباً ليس بها ساكن، فتنفس الصعداء وقال:
وكل دار وإن طالت سلامتها يوم ستدركها النكباء والحوب
ثم قال: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها، فقال أبو جهل – مخاطباً العباس-: هذا عمل ابن أخيك فرق جماعتنا وشتت أمرنا وقطع بيننا.
وتنازل صهيب عن أمواله لقريش مقابل السماح له بمغادرة مكة. . فقال له ﷺ: (ربح البيع أبا يحيى) (1).
حدث هذا كله في فترة يسيرة ابتدأت بعد انتهاء موسم الحج في النصف الثاني من شهر ذي الحجة واستمرت خلال شهري المحرم وصفر وكانت هجرته ﷺ في ربيع الأول.
_______________________
(1) ذكره ابن كثير في تفسير الآية 207 من سورة البقرة وانظر جامع الأصول 2/ 37 الحديث 502.
على هامش البيعة:
قبل أن ننهي الحديث عن البيعة يحسن بنا الوقوف على هذين الخبرين:
1- حدث كعب بن مالك – وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله ﷺ قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور، سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء لنا: يا هؤلاء: إني قد رأيت رأياً. فوالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر – يعني الكعبة – وأن أصلي إليها، قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا ﷺ يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه. فقال: إني لمصلٍ إليها، فقلنا: لكن لا نفعل. فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة (1).
وكان البراء ممن أسلم في المدينة، ولم ير بعد رسول الله ﷺ. ويستوقفنا في هذا الخبر:
– الانضباط والالتزام من المسلمين بسلوك رسولهم وأوامره، وإن أي اقتراح – مهما كان مصدره – يتعارض مع ذلك يعتبر مرفوضاً. وهذه من أوليات الفقه في دين الله. تأخذ حيزها من حياتهم وهم بعد ما زالوا في بداية الطريق.
– إن السيادة لم تعد لأحد غير رسول الله ﷺ وإن توقير إي إنسان واحترامه إنما هو انعكاس لسلوكه والتزامه بأوامر الرسول ﷺ وهكذا بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية فهي المقاييس الحقة التي بها يمكن الحكم على الناس تصنيفاً وترتيباً.
ويذهب البراء ليعرض أمره – ذاك على الرسول ﷺ ويسمع منه الكلمات التالية: (لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها). أنه جواب الحكمة – إنه بيان للخطأ وأمل كبير في تحقيق ما يصبو إليه – إنه إيضاح للخطأ دون جرح للمشاعر. .
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 439.
2- رأينا أن العباس حضر مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة ليتوثق له. وقبل أن يتحدث حديثه – الذي سبق – نظر في وجوه القوم: وقال: هؤلاء قوم لا نعرفهم (1)، هؤلاء أحداث.
كان العباس يومئذ يناهز الخمسين من العمر، فهو يعرف كبار القوم سناً ممن كان في مثل سنه وأكثر الذين حضروا البيعة هم الشباب. وتلك حكمة الله، فالأعمال الجسيمة تحتاج إلى همة الشباب وعزمهم.
إن قوة الشباب وعزمهم حينما يضبطها الالتزام بخط الإيمان فلا تنحرف عنه، ويتضح في أذهانهم سمو الهدف ورفعة المقصد ومن وراء ذلك القيادة الصادقة الملتزمة التي تأخذ نفسها بتعاليم الإيمان التي هي منهج الجميع. . حينئذ لن يكون في الطريق عثرات.
إن هؤلاء الشباب كانوا قوة الحق التي أزاح الله بها الباطل، ولقد سجلت المعركة الأولى – بدر – حضور واحد وخمسين منهم من أصل ثلاثة وسبعين، وهي معركة لم تكن متوقعة.
كان العباس يتكلم من منطق البيئة التي نشأ بها – حين كان شيخ القبيلة هو القبيلة – ولكن الإسلام. . كانت له مقاييس أخرى. . تقوم على التقوى والعلم في دين الله. وبهذا المنطق كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح في الصلاة بعد هجرتهم إلى المدينة. . لأنه أكثرهم قرآناً.
ما أحوج دعوة الإسلام دائماً إلى الشباب يمدها بالحيوية والاستمرار في الطريق. . وما أحوج الشباب إلى القرآن يمدهم بالإيمان.
_______________________
(1) إن العباس يتكلم بشكل عام وإلا فقد كان يعرف البراء بن معرور وكعب بن مالك. وقد عرفه الرسول ﷺ عليهما حينما جاءه البراء يسأله عن توجهه في الصلاة إلى الكعبة وقال له: (قد كنت على قبلة لو صبرت عليها).