لعل أهم وأعظم ما أفاده المسلمون من التأسي به ﷺ في بيته وفي معيشته، هو ما فهمه الخلفاء الراشدون، وفي مقدمتهم الصديق رضي الله عنه: من أن قصة التخيير الواردة في القرآن الكريم لم تكن قصة عابرة، وإنما تعني أن هذا الوضع الذي اختاره الله تعالى لنبيه ﷺ، هو الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه الخليفة في معيشته حتى تستقيم الأمور في الأمة.
وهذا يعني أن الخليفة ينبغي له أن يلتزم تلك الحال التي كان عليها ﷺ حتى تستقيم الأمور، وهذا ما أسميته “الفقر الملتزم” (1).
ولا بد من بيان ذلك بشيء من التفصيل.
عن سالم بن عبدالله قال: لما ولي عمر رضي الله عنه، قعد على رزق (2) أبي بكر رضي الله عنه الذي كانوا فرضوا له، فكان على ذلك، فاشتدت به الحاجة.
فاجتمع نفر من المهاجرين، منهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقال الزبير: لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه، فقال علي: وددنا أنه قبل ذلك. . فانطلقوا بنا إليه، فقال عثمان: إنه عمر! فهلموا. . فلنسأل حفصة ونستكتمها.
______________________
1. “الفقر الملتزم” مصطلح وضعته لقصة التخيير وما ترتب عليها من فقه ما سنجده في هذا الفصل، وقد سبق بحث بعض ذلك في كتاب “من معين السيرة” وكتاب “هكذا فهم الصحابة”.
2. قعد على رزق أبي بكر: أي تسلم الخلافة على أن يكون له الراتب نفسه الذي كان يأخذه أبو بكر.
فدخلوا عليها، وطلبوا منها:أن تخبر عمر بالخبر عن نفر، ولا تسمي له أحداً، إلا أن يقبل. . وخرجوا من عندها.
لفيت حفصة أم المؤمنين عمر في ذلك، فعرفت الغضب في وجهه.
قال: من هؤلاء؟
قالت: لا سبيل إلى علمهم، حتى أعلم رأيك.
قال: لو علمت من هم لسودت وجوههم، أنت بيني وبينهم، وأنشدك بالله، ما أفضل ما اقتنى رسول الله ﷺ في بيتك من الملبس؟
قالت: ثوبين ممشقين (1)، كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع.
قال: فأي الطعام ناله عندك أرفع؟
قالت: خبزنا خبزة شعير فصببنا عليها وهي حارة أسفل عكة لنا، فجعلناها هشة دسمة، فأكل منها.
قال: فأي مبسط كان يبسط عندك كان أوطأ؟
قال: كساء لنا ثخين، كنا نربعه في الصيف فنجعله ثخيناً، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه، وتدثرنا بنصفه.
قال: يا حفصة! فأبلغيهم عني، أن رسول الله ﷺ قدر فوضع الفضول مواضعها، وتبلغ بالتزجية (2)، وإني وإني قدرت، فوالله لأضعن الفضول مواضعها، لأتبلغن بالتزجية، وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول، وقد تزود زاداً فبلغ ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتبعه الثالث، فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما، وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما (3).
_____________________
1. ممشقين: مصبوغين بمشق.
2. التزجية: الاكتفاء.
3. “حياة الصحابة” للكاندهلوي. الباب الثامن (2/ 896).
تلك هي الكلمات التي لخص فيها رضي الله عنه منهجه في عيشه.
إنه مسلك التزمه عن فقه في دين الله، كشفته بصيرته النافذة، ومهد السبيل له تلك الصحبة والمعايشة للرسول الكريم ﷺ.
تعرف على هذا المسلك من خلال تطبيق عملي، رآه ببصره، ووعاه بقلبه. . فالتزم السير على طريق “الأسوة الحسنة” مبتغياً بذلك وجه الله تعالى.
فلقد رأى رسول الله ﷺ في بدء الهجرة – والمسلمون في شدة وضنك – فكان ﷺ واحداً منهم. . ثم رآه في آخر حياته ﷺ على تلك الحالة، على الرغم من التحسن المادي الكبير الذي طرأ على حياة المسلمين.
لقد فتحت خيبر. . وفتحت بعدها فدك، وكان فيئاً خالصاً له ﷺ. . وها هو في العام الثامن من الهجرة يوزع غنائم هوازن. . وها هو في العام التاسع يجيز الوفود المتعددة ويمنحهم الصلات العظيمة. . ومع ذلك ظل الوضع في أبياته على ما هو عليه.
ولهذا السبب كانت مطالبة أمهات المؤمنين بالتوسيع بالنفقة. . ثم أنزل الله تعالى آية التخيير، وقد سبق الحديث عن ذلك. .
وكان عمر رضي الله عنه قد عاش حادثة التخيير بكل أبعادها. . وأخذت مكانها من قلبه وفكره. .
وتواردت الحوادث على فكره متزاحمة، ومن جملة ما توارد على فكره:
أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى فَاطمة فَوَجَدَ فِي يَدِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ أهداها إليها علي، فَقَالَ: (يَا فَاطِمَةُ بِالْعَدْلِ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَفِي يَدِكِ سِلْسِلَةٌ مِنْ نَارٍ)؟ ثُمَّ عَذَمَهَا (1) عَذْمًا شَدِيدًا، ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَقْعُدْ.
______________________
1. عزمها: أي لأمها.
فَأَمَرَتْ فاطمة بِالسِّلْسِلَةِ فَبِيعَتْ فَاشْتَرَتْ بِثَمَنِهَا عَبْدًا فَأَعْتَقَتْهُ فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ كَبَّرَ وَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّى فَاطِمَةَ مِنْ النَّارِ) (1).
وتذكر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ الْحِلْيَةَ وَالْحَرِيرَ وَيَقُولُ: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ حِلْيَةَ الْجَنَّةِ وَحَرِيرَهَا فَلَا تَلْبَسُوهَا فِي الدُّنْيَا) (2).
وهكذا لم يكن شظف العيش قاصراً على أبيات أزواجه ﷺ، بل إنه تناول ابنته أيضاً. . وهؤلاء هم آل بيت النبوة.
وفكر عمر في كل هذه الحوادث، وغيرها كثير. . فاستقر في وعيه أن تأكيده ﷺ على هذا المسلك كان مقصوداً، ولم يكن ناتجاً عن أحوال اضطرارية ألجأت إليه، فما كان هناك ما يدعو إلى ذلك.
إن كل عمله ﷺ كان سنة للناس من بعده، ما لم يكن أمراً خاصاً به ﷺ، ولم يرد أن هذا المسلك في التزام الفقر كان أمراً خاصاً به. وقد جاء قوله تعالى:
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا}
[الأحزاب: 21]
ليجعل منه ﷺ أسوة، وهذه الأسوة في كل الميادين، وعلى المسلم أن يتأسى به في الميدان الذي يمارسه في حياته العملية.
وقد رأى عمر في مسلكه ﷺ في التزام الفقر أمراً سنه ﷺ لقائد الأمة، ولذا لم يطلب ﷺ من أصحابه أن يسلكوا هذا المسلك. . ولقد تأكد لعمر هذا الفهم بنهيه ﷺ فاطمة عن لبس الذهب وهو الذي يقول في الحرير والذهب:
(حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ) (3).
وإذن فهو لم يرض لها ذلك باعتبارها بنت رسول الله قائد هذه الأمة.
______________________
1. “الفتح الرباني” (17/ 260).
2. أخرجه النسائي (5151).
3. أخرجه الترمذي (1720)، والنسائي (5163، 5280).
وعندما طلب علي وفاطمة الخادم، إنما كانا يطلبانه من نصيب رسول الله ﷺ من الخمس، وليس من أموال المسلمين، ومع ذلك لم يلب طلبهما.
وعندما كانت قضية أمهات المؤمنين بشأن مطالبتهن بالنفقة، لم يأمره تعالى بالتوسيع عليهن، في الوقت الذي كان قادراً فيه على التوسيع من نصيبه من الفيء. . وإنما أمرهن تعالى – إن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة – أن يلتزمن بمسلكه ﷺ.
كل هذه كانت مؤشرات، فهم منها عمر أن التزام الفقر سنة في حق قائد الأمة الذي يتولى منصب الخلافة، وهو منصب واحد في الدولة.
وكما أن من واجب كل قاض أن يتأسى به ﷺ في عدله، ومن واجب كل زوج أن يتأسى به في حسن معاملته لأهله، ومن واجب كل فرد أن يتأسى به في طاعته لله عز وجل، ومن واجب كل مرب أن يتأسى به في حسن تربيته. . . و. . . و. . . فمن واجب كل من تولى منصب الخلافة في الأمة أن يتأسى به في “التزام الفقر” وطرح الدنيا من حسابه. . . وفطم نفسه وأهله عنها. . .
إن قيادة الأمة وتولي شؤونها عمل كبير، ومسؤوليته عند الله أكبر. وعلى من أنبط به هذا العمل أن يكون لديه من رصيد العقيدة والإيمان. ومن العفة والأمانة، ما يتمكن به من مقاومة الإغراء، والسيطرة على أهواء النفس، واضعاً نصب عينيه في كل وقت موقفه للحساب بين يدي الله تعالى. . فهي منصب لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها.
هذا ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التزامه ﷺ بالفقر.
ولقد أكد في نفسه هذا الفهم سيرة أبي بكر رضي الله عنه إبان خلافته. . .
كان أبو بكر في جاهليته وإسلامه رجلاً تاجراً، يسر الله له من التجارة المال الكثير، ولم يعش عيشة الفقراء في حياته قط، إلا في وقت الأزمات التي كانت تعم المسلمين نتيجة لضغط الكفر. . ولقد كان بيت مال المسلمين المتحرك إلى جانب الرسول ﷺ. . .
وآلت إليه الخلافة. . فكيف كانت معيشته؟
ونترك الجواب لعائشة، فقد نقلت لنا في الحديث الذي قاله والدها في مرض موته ما يكشف لنا عن تلك المعيشة بأبلغ كلام. . .
قال عائشة: قال أبو بكر: “أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين، لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش (1) طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا. وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير، إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد (2) هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر، وابرئي منهن”.
ففعلت.
فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، وجعل يقول: “رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده، يا غلام ارفعهن. .” (3).
تلك هي سيرة أبي بكر في معيشته، إبان خلافته، الخشن من الطعام والخشن من الثياب. . وليس من خلاف في أنه رضي الله عنه كان أكثر الصحابة فهماً عن رسول الله واستمساكاً بهديه ﷺ.
ولم ينس عمر وصية أبي بكر وقد عهد إليه بالخلافة إذ قال:
“. . فإن أنت وليت عليهم أمرهم، فإن استطعت أن تجف يدك عن دمائهم، وأن تضمر بطنك من أموالهم، وأن تجف لسانك من أعراضهم فافعل ولا قوة إلا بالله. .” (4).
______________________
1. الخشن، وجراشة الشيء ما سقط منه جريشاً إذا أخذ ما دق منه.
2. انجرد الثوب: أي انسحق.
3. “طبقات ابن سعد” (3/ 196).
4. “كنز العمال” (5/ 677 ح 14176).
كانت تلك المشاهد من عمر لرسول الله ﷺ وصاحبه عوامل الفقه الدقيق في دين الله تعالى. وقد لخص هذا الفقه بقوله السابق لحفصة:
“يا حفصة. . وإنما مثلي ومثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول، وقد تزود زاداً فبلغ، ثم اتبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتبعه الثالث، فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما، وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما”.
إذن: فطريق “التزام الفقر” وفطم النفس عن الدنيا هو بعض معالم الطريق التي ينبغي أن يسير عليها قائد الأمة، ليضمن لنفسه الآخرة. . ويضمن لأمة المسلمين دنياهم، ويساعدهم على ضمان آخرتهم.
عليه أن يفتقر ليؤمن للناس الغنى، وتلك ضريبة المسؤولية العظيمة. . أن يعيش الإنسان المؤمن من أجل غيره لا من أجل نفسه. .
وهكذا كان عمر. .
عن عكرمة بن خالد: أن حفصة وابن مطيع وعبدالله بن عمر كلموا عمر بن الخطاب فقالوا: لو أكلت طعاماً طيباً كان أقوى لك على الحق، فقال: قد علمت أنه ليس منكم إلا ناصح، ولكني تركت صاحبي – يعني: رسول الله وأبا بكر – على جادة، فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل (1).
وقال ابن عمر: كان عمر يكتسي الحلة في الصيف، ولربما خرق الإزار حتى يرقعه، فما يبدل مكانه حتى يأتي الإبان (2)، وما من عام يكثر فيه المال إلا كسوته فيما أرى أدنى من العام الماضي. فكلمته في ذلك حفصة فقال: إنما أكتسى من مال المسلمين وهذا يبلغني (3).
______________________
1. “كنز العمال” (12/ 556 ح 35751).
2. أي: موعد العطاء.
3. “كنز العمال” (12/ 562 ح 35781) نقلاً عن ابن سعد.
وعن الزهري، أن مالك بن أوس حدثه. قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب، فجئته تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالساً على سرير، مفضياً (1) إلى رماله (2)، متكئاً على وسادة من أدم. . (3).
إنها الصورة نفسها التي أبكت عمر يوم رأى رسول الله ﷺ وقد أثر الحصير في جنبه، تتكرر واقعاً عملياً، لا صنعة فيه. . إنه الطريق نفسه، والجادة نفسها. .
وفي هذا الإطار كانت سياسته في عماله، وتوجيهه لهم، ونذكر رسالته إلى أبي موسى الأشعري كنموذج لهذه السياسة. فقد جاء فيها:
“. . فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً، وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها، فإياك يا عبدالله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب، فلم يكن لها هم إلا التسمن، وإنما حتفها في السمن. .” (4).
وقد لخص لنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلوب الصاحبين في عيشهما بكلمات قليلة، كما روى ذلك عنه المسور فقال: سمعت عثمان يقول: يا أيها الناس، إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف (5) أنفسهما، وذوي أرحامهما. . (6).
ولم يغب عن ذهن عمر، أنه في كثير من الأحيان ما يؤتى الإنسان من قبل أهله وذوي رحمه، حيث تطغى العاطفة على العقل، وقد قطع عمر طمع كل طامع في سلوك هذا السبيل، ونترك الحديث لابنه عبدالله يحدثنا عن ذلك.
______________________
1. يعني: ليس بينه وبين رماله شيء. وإنما قال هذا لأن العادة أن يكون فوق الرمال فراش أو غيره.
2. رماله: هو ما ينسج من سعف النخل ونحوه ليضطجع عليه.
3. رواه مسلم (1757).
4. “كنز العمال” (3/ 149) كما في “حياة الصحابة” للكاندهلوي (2/ 113).
5. ظلف العيش: بؤسه وشدته وخشونته.
6. “كنز العمال” (5/ 627) الحديث (14106) من رواية ابن سعد.
قال: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: “لا أعلمن أحداً وقع في شيء مما نهيت عنه إلا ضاعفت له العقوبة” (1).
ولئن قال عمر في حق أبي بكر – بعد وفاته – “لقد أتعب من بعد” فإن علياً خاطب بها عمر بن الخطاب في حياته فقال: “قد أتعبت الخلفاء من بعدك” (2).
______________________
1.”طبقات ابن سعد” (3/ 289).
2. “البداية والنهاية” (7/ 136).