×

سمات التربية في المرحلة المكية

تحدثنا في الفصول السابقة عن مسارات التربية، ورأينا كيف تناولت كل مسارب النفس الإنسانية، منطلقة من قاعدة العقيدة، معتدة بالصبر مستنيرة بالتصور الصحيح، في سبيل بناء القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بناء الإسلام.

ونتحدث في هذا الفصل عن السمات الأصيلة القائمة في بنية هذه التربية، استكمالاً للتصور الكامل للموضوع، ومن هذه السمات:

1- تربية أمة:

إن هذه التربية تربية أمة، والأمة في مفهومها الإسلامي: الجماعة التي تدين بعقيدة واحدة، وتتجمع على آصرتها، وتدين لقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة (1).

وهذا يعني أي يربى الفرد فرداً، ويربى فرداً في جماعة، وهذا بدوره يقتضي تكثيف العمل وانتشاره على مساحة واسعة تشمل أرجاء النفس كلها. .

إنها تربية تبدأ من داخل النفس في اتجاهين: تصفيتها من رواسب الجاهليات والسير بها في الطريق الإيجابي، طريق البناء الخلقي. وفي الوقت نفسه تبنى خارجياً على محاربة الشر والباطل. . والولاء لقيادة الأمة المذكورة، وهي في الوقت نفسه تربى في كلا الأمرين – داخل النفس وخارجها – وفق مفهوم جماعي قوي الترابط. لأن ترابطه قائم على أساس اعتقادي. .

____________________

1. في ظلال القرآن 3/ 1402 وانظر 3/ 1385.


وهذا النوع من التربية ليس عملاً سهلاً، لما يحتاج إليه من التناسق والترابط والسير به في خطى متوازية، ولكن الذي يسهل هذا الأمر، أنه يسدد خطواته الوحي ويشرف على التنفيذ قائد هذه الدعوة الرسول ﷺ،

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ ٱخْتِلَٰفًا كَثِيرًا} (1)

2- التربية بالأحداث:

إنها تربية تطبيقية تقوم في واقع الحياة العملية، ولم تكن مجرد محاضرة أو درس، أو تصور نظري، ذلك أنا لسنا أمام ترف فكري أو فلسفة عقلية.

ما فائدة أن يستمع الإنسان إلى العديد من المحاضرات في أمر عملي، ثم لا يمارس التطبيق مرة واحدة في واقع الحياة؟ (2).

ومن التربية بالأحداث الاستفادة من تجارب السابقين، فهي خبرات عملية، ولقد قص القرآن الكريم الكثير منها. . وهي بين موقفين: موقف إيجابي يحسن التأسي به وموقف سلبي ومنزلقات على الطريق ينبغي الحرص والابتعاد عنها.

____________________

 

1. سورة النساء: الآية 82.

2. من وقائع الحياة التي عايشناها، أن شيخاً حصل على مرتبة علمية في بحث التصوف، ثم رغبة منه في نشر العلم بدأ يلقي دروسه في الموضوع الذي نال شهادته على أساسه في أحد مساجد دمشق القديمة، وحدث مرة عند خروجه من درسه أن أحد الغلمان دخل بدراجته بين رجلي الشيخ بسبب شدة الزحام، فما كان منه إلا أن أنهال على الغلام ضرباً ولكماً حتى تدخل العامة من الناس لكفه عنه. . إن كل تلك الشهادة لم تكن قادرة على إثبات نجاحه في ذلك الموقف البسيط.


وقد رأينا كيف استفاد الصحابة من قصة أصحاب الأخدود في صبرهم، كما رأينا كيف أن الرسول الكريم خفف عن خباب حين جاء يشتكي إليه، بصبر الأمم السابقة وخباب يومئذ إنما كان يشكو واقعاً عملياً، وقد رفع الرسول صلى الله عليه وسلم من همته بواقع عملي آخر سابق.

وبهذا الأسلوب من التربية تتحول المفاهيم إلى حركة، فلا يعود الإسلام نطقاً بالشهادتين بغير مدلول” وإنما يصبح انسلاخاً من مجتمع جاهلي بكل قيمه وتصوراته. . وانطلاقاً إيجابياً في سبيل قيم الخير.

ولقد أحسن سيد – رحمه الله – عندما فسر قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1).

قال: ” والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية: أن المؤمنين لا ينفرون كافة، ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة – على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون – لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم، بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة”.

“والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه. . أن هذا الدين منهج حركي لا يفقهه إلا من يتحرك به، فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه، بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه. . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا. .” (2).

إن هذا الفهم هو الذي يتساوق  مع منهج هذه التربية بمقوماتها وسماتها.

ولعل هذه السمة “التربية بالأحداث” تفسر لنا ما يكاد يصبح سمة أخرى بارزة في هذه التربية، وهو الابتلاء.

____________________

 

1. سورة التوبة: الآية 122.

2. في ظلال القرآن 3/ 1734.


إن تحول المفاهيم إلى حركة هو الذي يخيف الجاهلية. ويجعلها تأخذ حذرها أولاً، وتدبر المسلمين المكائد. . وينتج عن ذلك الابتلاء. . ولو كان الإسلام مجرد فكر أو اعتقاد لا حركة له في الواقع لما كان هناك من يتعرض له، فقد برز على مسرح مكة قبل البعثة رجال أطلق عليهم “الحنفاء” فارقوا معتقدات قومهم وعباداتهم واجتنبوا عبادة الأصنام. . ومع ذلك لم يقف في وجههم أحد ولم يزعجهم أحد بكلمة، ذلك أن فكرهم لم يتحول إلى حركة.

3- تربية وئيدة الخطى:

وننظر في حساب الزمن، فنجد أن هذه التربية استغرقت ثلاثة عشر عاما، وننظر في حساب الوحي فنجد أن أكثر من نصف القرآن نزل في هذه المدة. .

لم تكن المهمة سهلة، إنها تعامل مع نفوس بشرية، كانت الغاية منه تغيير هذه النفوس، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ثم التغيير بهذه النفوس. .

ولقد سميت مهمة التعامل مع النفوس تربية، ذلك أنها تكون تعهداً حالاً بعد حال إلى حد التمام (1).

إن طبيعة العملية التربوية تحتاج إلى وقت، وإذا كانت هذه العملية تشمل ساحة النفس كلها على السطح، وتصل إلى الأعماق في الاتجاه الأخر. فذلك يفسر لنا الحاجة إلى ذلك الوقت الذي ذكرناه، وإلى كل تلك الآيات التي نزل بها الوحي في هذه المدة.

ويشرح سيد – رحمه الله – كيف تمت هذه التربية فيقول:

____________________

1. في كتاب مفردات الراغب الأصفهاني: الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التام. [عن كتاب مدخل إلى التربية للأستاذ عبدالرحمن الباني ص 11].


 

“هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ، لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة، ولم تخلق بين يوم وليلة، كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة. بل نمت طبيعياً بطسئاً كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور، وأخذت الزمن اللازم لنموها، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو، واحتاجت إلى العناية الساهرة، والصبر الطويل، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب، والتوجيه والدفع، والتقوية والتثبيت، واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة، والابتلاءات الشاقة المضنية، مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات. . “(1).

4- التربية وقيمة العمل:

مما تقرره هذه التربية في النفوس أن “العمل” – أي عمل، سواء أكان مادياً أم معنوياً – إنما يستمد قيمته من الباعث الذي دفع إلى القيام به، أو ما نعبر عنه بـ”النية”.

وهذا المقياس في التقويم له نتائج عظيمة في واقع الحياة، حيث يقوم المؤمن بالعمل أداء للواجب أو إسهامااً في الخير. . امتثالاً لأمر الله تعالى، ولا ينتظر النتائج. ذلك أن تقدير قيمة العمل لا تتوقف على حصول النتيجة أو شعور القائم به أنه وصل إلى نتيجة.

قال صلى الله عليه وسلم: “صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة” ومات ياسر وقبله ماتت زوجته سمية، ولم يشعرا أنهما وصلا إلى نتيجة. . ولكن الجزاء ليس مرتبطاً بالنتيجة وإنما بالعمل. .

وعدم شعور المؤمن بالوصول إلى نتيجة لا يعني عدم هذه النتيجة، فإنه في كثير من الأحيان قد تكون هذه النتيجة غير منظورة. . وقد تأتي متأخرة.

نكتفي بهذا القدر من السمات وبها نختم حديثنا عن هذا الموضوع.

____________________

1. في ظلال القرآن 6/ 3337.

مواضيع ذات صلة