×

عام الحزن

مرض أبي طالب:

اشتكى أبو طالب وبلغ قريشاً ثقله. فمشى إليه أشرافهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان وغيرهم. فقالوا يا أبا طالب. إنك منا حيث قد علمت وقد حضرتك ما ترى وتخوفنا عليك. وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه ليكف ونكف عنه. وليدعنا وديننا وندعه ودينه.

فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال: يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك وليأخذوا منك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات: قال: (تقولون: لا إله إلا إله وتخلعون ما تعبدون من دونه).

فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ ثم قالوا لبعضهم: إن هذا الرجل ليس بمعطيكم شيئاً مما تريدون. فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم. . .

وأنزل الله تعالى في حقهم:

{صٓ ۚ وَٱلْقُرْءَانِ ذِى ٱلذِّكْرِ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍۢ وَشِقَاقٍۢ}

. . .   الآيات (1).

والذي يسترعي الانتباه في هذه الواقعة:

1- أن الملأ من قريش لم يذهبوا إلى أبي طالب يريدون الأخذ والعطاء، أريحية وكرماً، وطلباً للنصفة والحق، وإنما صيانة لوضعهم القائم، وحفاظاً على هيبتهم، وقد بات أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهددهم على الرغم من إمساكهم لدفة الأمور في مكة وشدة قبضتهم على السلطة. يؤيد هذا ما رواه ابن إسحاق (2): قالت قريش: إن حمزة وعمر قد أسلما. وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبي طالب . . والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا (3).

ويتضح من هذا أن الظلم والطغيان لم يكن ليقبل بالتنازل عن بعض غيه إلا إذا كان له من وراء ذلك مصلحة أو منفعة أو دفع مضرة. ولن يفعل ذلك رغبة في الخير، إذ لا رصيد لمادة الخير في نفوس هؤلاء وفاقد الشيء لا يعطيه.

2- إن أبا جهل كان متحمساً لإعطاء الرسول الكريم عشر كلمات لا كلمة ولكنه لما سمع الكلمة المطلوبة تغير موقفه هو وصحبه.

ذلك أن أبا جهل كان يفهم مدلول الكلمة فهماً صحيحاً. كما كان يفهمها كل مسلم يومئذ انضم إلى صف الإيمان. ولو أن أبا جهل لم يفهم ذلك لسهل عليه أن يقولها.

إن الكثير الكثير من المسلمين اليوم يقولونها ولا يدركون من مستلزماتها ومن مفهومها إلا ما لا يتعارض مع سبيل حياتهم الذي اختطوه لأنفسهم بعيداً عن شرع الله ومنهاجه.

إن (لا إله إلا الله) تعني التزاماً بمنهج الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سواء في حياة الفرد الخاصة أو حياته العامة. . إنها تحكيم شرع الله في كل أمر من أمور الحياة. . الفرد. . والمجتمع. والدولة. . والإنسانية.

إننا اليوم نحسب على المسلمين، كل الشيوعيين، الذين يقولون: لا إله إلا الله، ليصلوا من ورائها إلى قلوب الناس وكسب ثقتهم، ثم الإيقاع بعد ذلك فيما نصبوا من شراك.

كما نحسب عليهم كل الملحدين الذي يقولون: لا إله إلا الله عادة اعتادوها لنشوئهم في مجتمع إسلامي، وهم لا يهتمون بمعناها فضلاً عن محاولة تعرفهم على ذلك. . .

ويُحسب على المسلمين. . ويُحسب. . .

ليت المسلمين اليوم ينتبهون لمعنى الكلمة في حياتهم وواقعهم وحينما يصدرون عنها في تصرفاتهم كلها سيتضح للناس أن هذه الكلمة لها مفهومها في واقع الحياة، وليست كلمة تقال باللسان وحسب، وليست شعاراً بلا مضمون.

 وفاة أبي طالب وخديجة:

في العام العاشر من نبوته صلى الله عليه وسلم وبعد الخروج من الشعب بأشهر توفي عمه أبو طالب وبعده بأيام توفيت خديجة فتتابعت المصائب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمي هذا العام عام الحزن.

 مكانة أبي طالب:

لم تكن رعاية أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عابراً في حياته، إنها بدأت منذ الثامنة من عمره واستمرت حتى انتهت حياة أبي طالب ولقد كان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه.

وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إسلامه كل الحرص فكان يقول له عند موته: (يا عم قل لا إله إلا الله استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة). فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي: لولا مخافة قريش أني قلتها جزعاً من الموت لقلتها لا أقولها إلا أسرك بها (4)، ومات أبو طالب على ملة عبد المطلب.

وأنزل الله فيه:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ }

سورة القصص: الآية 56.

ويعجب المرء لموقف أبي طالب هذا. . كل ذلك الحب الذي كان يكنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك العطف وتلك النصرة. . كل تلك المواقف التي رأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقف على أرض من الحق ثابتة. . لم تكن تجعله ينطق بكلمة الإيمان. . إنه أثر الجاهلية في تعظيم الآباء والاستمساك بما كانوا عليه.

على أن الحكمة واضحة. فلو كان أبو طالب قد التزم بالإسلام لكان وضعه شبيهاً بوضع أي مسلم آخر ولما كان قادراً على حماية نفسه فضلاً عن حماية غيره، إن بقاءه على دين آبائه أتاح له أن يبقى في مركزه الاجتماعي والذي من خلاله أدى الخدمات للرسول صلى الله عليه وسلم.

 مكانة خديجة رضي الله عنها:

كانت خديجة أول من آمن به وصدقت بما جاءه من الله. فكان لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس.

ويفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتها السند الداخلي الذي كان يخفف عنه إذا عاد إلى بيته. كما فقد بموت أبي طالب السند الذي كان يدفع عنه القوم.

ولم تتغير مكانة خديجة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موتها. فقد كان كثير الثناء عليها. حتى قالت عائشة رضي الله عنها:

“ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين”

أخرجه البخاري برقم (3817)

وقالت له عائشة مرة، وقد ذكرها، وأثنى عليها بأحسن الثناء” قد أبدلك الله خيراً منها. قال: (ما أبدلني الله خيراً منها. وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس. وصدقتني إذ كذبني الناس وآستني بمالها إذ حرمني الناس . ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).

 وفي الحديث:

[أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ وَمِنِّي وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ]

متفق عليه (خ 3820، م 2432).

والقصب، اللؤلؤ المجوف.

ولم يتزوج عليها رسول الله حتى ماتت. وهكذا يقضي صلى الله عليه وسلم ريعان شبابه مع زوجته التي تكبره خمسة عشر عاماً فيمضي ما يقرب من خمس وعشرين سنة معها لم يفكر بزوجة ثانية، وكان يكن لها من التقدير والحب والاحترام ما جعل عائشة تصاب بالغيرة.

ألا يعني هذا أن كل زواج له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إنما كان وراءه حكمة؟ تدرك تارة وتخفى أخرى، ويعيها بعضهم ولا يدركها بعضهم الآخر، وتُدحض بذلك افتراءات المفترين.

 جرأة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

كان أبو طالب ناصراً للرسول صلى الله عليه وسلم ومدافعاً عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال. فلما مات اجترأ سفهاء قريش عليه صلى الله عليه وسلم ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.

  • ألقى سفيه منهم عليه تراباُ فرجع إلى بيته فأتت واحدة من بناته صلى الله عليه وسلم تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول: (أي بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك) (5).
  • وكان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم. إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه. فانبعث أشقاهم فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً – وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك – فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية صغيرة فأقبلت تسعى وثبت صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم. فلما قضى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: (اللهم عليك بقريش) ثم سمى فقال:

    (اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد)

    متفق عليه (خ 240، م 1794).

    هذه نماذج مما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء بعد وفاة عمه أبي طالب. . ولئن كان فيما سبق يعود فيجد السيدة خديجة تشد من أزره وتخفف آلامه، فإنه يعود اليوم ولا خديجة. . وكان عليه أن يفكر فيما ينبغي سلوكه.

 


1. ابن هشام 1/ 417.

2. ابن هشام 1/ 417.

3. ابتزه أمره: سلبه إياه وغلبه عليه.

4. شرح الزرقاني على المواهب 1/ 291.

5. ابن هشام 1/ 416.

مواضيع ذات صلة