×

غزوة بَدر الكبرى (2)

الأسرى والغنائم:

قام نفر من الصحابة بجمع الغنائم – بعد المعركة – بينما كان آخرون في أثر المشركين يتابعونهم وكان الفريق الثالث في حراسة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد خافوا كرة العدو.

وظن الذين جمعوا الغنائم أنها من حقهم، ولم ير الآخرون ذلك لأنهم كانوا أثناء الجمع في مهمات تتعلق بإتمام النصر والحفاظ عليه فاختلفوا.

وهكذا تبرز مشكلة مادية تحتاج إلى حل، فالصحابة بشر يدخل نفوسهم ما يداخل نفوس البشر ولكنهم يتميزون بالوقوف عند أوامر الله تعالى. . . ونزلت سورة الأنفال لتبين الحق. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقد سئل عن الأنفال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على السواء.

وأما الأسرى – وكان عددهم سبعين مماثلاً عدد القتلى – فقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمرهم. فقال أبو بكر رضي الله عنه: نأخذ منهم فدية تكون لنا قوة ونطلقهم لعل الله يهديهم للإسلام. ويؤيد أبا بكر في رأيه أغلبية المسلمين (1)، وكان رأي عمر رضي الله عنه أن قال: لا والله ما أرى ذلك ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديد الشرك. وكذلك كان رأي سعد بن معاذ، وقريباً منه كان رأي عبدالله بن رواحة.

وأخذ صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر فنزل قوله تعالى تعقيباً على ذلك:

{مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْأَخِرَةَ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلَا كِتَٰبٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

سورة الأنفال: الآيتان 67- 68.

فداء الأسرى:

وأخذ الفداء من الأسرى كل بحسبه – بعد الإذن في قوله تعالى:

{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَٰلًا طَيِّبًا ۚ}

– وقد قال صلى الله عليه وسلم في صدد الأسرى:

(لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له )

أخرجه البخاري برقم (3139) .

والحديث تعبير عن الوفاء والاعتراف بالجميل، فقد كان للمطعم مواقف تذكر بخير، فهو الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في جواره حينما عاد من الطائف، كما كان من أشد القائمين على نقض الصحيفة يوم حوصر المسلمون وبنو هاشم. . . واعترافاً بذلك يقول عليه السلام: لو كان حياً وسأله أن يترك له الأسرى بغير فداء لفعل إكراماً له، ولقد كان المطعم في كثير من مواقفه شبيهاً بأبي طالب يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحترمه ويؤمن بصدقه ولكنه آثر ألا يخرج على الماضي الذي نشأ عليه.

ولئن كان في قوله صلى الله عليه وسلم الوفاء للمطعم، ففيه جانب آخر ذلك أن مسألة الفداء لم تكن حرصاً على المادة وأخذ المال، فواضح من الحديث كل الوضوح عدم الاهتمام بالجانب المادي – وإلا لما فكر بتركهم للمطعم. . – وإنما كان جانب الحرص والرغبة في إصلاح أعدائه وتوقع أن يهديهم الله إلى طريق الحق هو الدافع لقبول الفداء. يتضح ذلك من تعليقه صلى الله عليه وسلم على موقف كل من أبي بكر وعمر: (إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال:

{فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُۥ مِنِّى ۖ وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال:

{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}

وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا} وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال:

{رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰٓ أَمْوَٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا ٱلْعَذَابَ ٱلْأَلِيمَ})

ثم أخذ برأي أبي بكر.

ونحن لا ننكر الاهتمام بالعامل المادي فذلك واضح في قوله صلى الله عليه وسلم بعد التمثيل لأبي بكر وعمر: (أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق) (2) إنه العامل المرجح وليس الأساس الباعث، وهذا بالنسبة لنا يفهم من موقفه صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يمنع أن بعض الصحابة كان ينطلق في اقتراحه من الجانب المادي والحرص على أخذ الفداء. والآية واضحة في الإشارة إلى ذلك:

{تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا} (3)

وتضع الآية الكريمة

{مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ. . .}

قاعدة هامة من بناء الدولة حينما تكون في مرحلة التكوين والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهر بمظهر اللين، حتى ترهب من قبل أعدائها. وفي سبيل هذه الكلية يطرح الاهتمام بالجزئيات حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها.

 شهداء بدر:

استشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. ستة من الخزرج واثنان من الأوس رحمهم الله جميعاً ورضي عنهم.

 “ولكن الله رمى“:

لا شك بأن المسلمين بذلوا قصارى جهدهم في إحراز النصر والإعداد له ضمن الإمكانات المتاحة لهم آنذاك، وقد تم لهم ذلك بفضل الله ولكنهم يظلون بشراً من الناس لهم رغبات الناس، ولذا وجدناهم يختلفون في قسمة الغنائم وترغب الغالبية فيهم أخذ الفداء من الأسرى بل لعلهم رأوا أنفسهم أصحاب الفضل في صنع النصر.

وإزاء ذلك كان لا بد من درس يبين فيه الح، وتسند النتائج إلى أسبابها، وكان هذا الدرس سورة الأنفال. التي وصفت المعركة وأكدت على فعل الله في كل ما هيأ من أسباب النصر، مادية كانت أو معنوية وسنحاول استعراض بعض ذلك بإجمال شديد وفق ما ورد في السورة قال تعالى:

{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ يُجَٰدِلُونَكَ فِى ٱلْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}

فالله هو الذي أخرجهم. . وهم يجادلون.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَٰفِرِينَ}

فهم يريدون غير ذات الشوكة والله يريد أن يحق الحق ويقطع دابر الكافرين.

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍۢ مِّنَ ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدِفِينَ}

فيعد أن وجدوا أنفسهم أمام المعركة استغاثوا. . . فأغاثهم.

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلْأَقْدَامَ}

إنها تهيئة لوسائل الراجة النفسية والجسمية، وكذلك تهيئة للجانب المادي بنهيئة أرض المعركة، لنثبت عليها الأقدام.

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ}

فالله قتلهم بنصركم عليهم لا بقوتكم. . والله هو الذي أوصل الحصباء التي رماها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عيون القوم.

{إِذْ أَنتُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}

إنه التدبير الإلهي مكاناً وزماناً. . . ليقضي الله أمراً كان مفعولا.

 

{إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَٰكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ}

 

 

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىٓ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِىٓ أَعْيُنِهِمْ}.

فقد رأى صلى الله عليه وسلم في المنام أن المشركين قلة فأخبر أصحابه فقويت نفوسهم كما أن كلاً من الفريقين كان قليلاً في عين الآخر وكان ذلك لصالح المؤمنين فرؤيتهم المشركين قلة دفعتهم إلى الحماس ودخول المعركة آملين المصر بينما رأى المشركون المسلمين أكلة جزور – كما عبر أبو جهل – فدخلوا المعركة غير مبالين فكانت الهزيمة.

 كل ذلك يحدث بفعل الله وتقديره وحكمته. وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم الحوادث التالية:

  • قاتل عكاشة بن محصن الأسدي بسيفه حتى انقطع في يده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلاً من حطب (4) فقال: (قاتل بهذا يا عكاشة). فأخذه فهزه فعاد في يده سيفاً طويلاً شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به. . . ثم لم يزل عنده حتى قتل في قتال أهل الردة رضي الله عنه (5).
  • قيل للعباس، وكان جسيماً، كيف أسرك أبو اليسر ولو شئت لجعلته في كفك – لصغر جسمه – فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني كالخندمة – جبل من جبال مكة (6)
  • لما قدم أبو سفيان بن الحارث مكة سأله أبو لهب عن خبر قريش فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا وأيم الله ما لمت الناس لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض والله لا يقوم لها شيء (7).
  • استقبل المسلمون الرسول صلى الله عليه وسلم بالروحاء يهنئونه بما فتح الله عليه. . فقال لهم سلمة بن سلامة ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعقلة فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أي ابن أخي: أولئك الملأ) (8)، – أي الأشراف والرؤساء -.

إن سورة الأنفال لفتت نظر القوم إلى فعل الله، ولقد عاش الصحابة تلك الوقعة وهم يرون بأم أعينهم آثار ذلك الفعل. إنها العقيدة التي تنزل إلى ساحة المعركة فتغير الموازين وتلغي التوقعات. إن الأرض حينما تتصل بالسماء يكون للحياة قانون آخر تعمل بموجبه الأشياء وهي من صنع الله فيتحول غصن الشجر إلى سيف ويصبح الرجل الصغير الجسم جبلاً كبيراً. . .

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ}.

ولهذه المعاني سميت سورة الأنفال “سورة الجهاد” (9) وأصبحت النشيد الذي يردده المسلمون في معاركهم.

 يوم الفرقان:

كان ذلك اليوم يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان للعام الثاني من الهجرة.

 ولئن كان رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هداية للناس وفرقاناً بين الحق والباطل، وفيصلاً بين الجاهلية – كل الجاهلية – وبين الإسلام، فإن رمضان هو الشهر الذي شهد يوم الفرقان يوم بدر الذي كان إيذاناً بانتصار الحق على الباطل بقوة مؤيدة بنصر الله وهداه، وإعلاناً بأن الحق مهما كان له من الوضوح والنصاعة لا يأخذ مكانه على مسرج الحياة ما لم يكن له القوة التي تحميه، هذه القوة التي أرادها الله أن تكون بعيدة عن الرياء والبطر: عاملة في سبيله طالبة مرضاته

{وَلَا تَكُونُوا كَٱلَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَٰرِهِم بَطَرًا وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}

سورة الأنفال: الآية 47.

إن هذه التسمية “يوم الفرقان” من الله تعالى:

{. . وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ}

سورة الأنفال: الآية 41.

قال: ابن عباس: سمي يوم الفرقان لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل. ولهذا تعتبر بدر أعظم غزوات الإسلام فضلاً وشرفاً.

 ونتساءل هل يعود السبب في ذلك إلى عدم التكافؤ بين الفريقين عدة وعدداً؟

 هناك غزوات أخرى تشارك بدراً في هذا الجانب ولكنها لم تعط هذه التسمية الكريمة وهذا الشرف، ولعلنا إذا وقفنا على ما جرى في هذه الغزوة نستطيع أن نرجع الأمر إلى أكثر من سبب:

 1- إنها أول غزوة كان لها أثرها في إظهار قوة الإسلام فكانت بدء الطريق ونقطة الانطلاق في انتشار الإسلام. وما تلاها من الغزوات والجهاد كان امتداداً لمعناها.

 2- لقد رسمت الخط الفاصل بين الحق والباطل فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني فعاشها الصحابة واقعاً مادياً وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت قيم الجاهلية فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه. .

  • كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين وكان أبوه عتبة أخوه الوليد وعمه شيبة في صف المشركين وقد قتلوا جميعاً في المبارزة الأولى.
  • كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين. . وكان ابنه عبد الرحمن في صف المشركين.
  • كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صف المشركين، ثم وقع أسيراً في يد أحد الأنصار فقال مصعب للأنصاري: شد يدك به فإن أخته ذات متاع، فقال أبو عزيز: يا أخي هذه وصيتك بي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك.
  • سمع عمير بن الحمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ الناس ويقول: (إن الله أوجب الجنة لمن يستشهد في سبيله)، فأخرج تمرات يأكلهن ثم قال: لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، فرمى بهن وقاتل حتى قتل (10) فكان أول قتيل.
  • وهذا سواد بن غزية يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استو يا سواد) ويضربه بسهم كان بيده يسوى به الصفوف فيقول: أوجعتني يا رسول الله فدعني اقتد منك. فيعطيه رسول الله السهم ويكشف له عن بطنه الشريف فيعتنقه سواد ويقبله. . فيقول له: (ما حملك على هذا؟) فيقول: يا رسول الله: قد حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. . فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير (11).

تلك كانت حقائق وليس مجرد كلمات: إنه أخي دونك. إنها القيم المطروحة لتقوم الإنسانية على أساسها فإذا العقيدة هي آصرة النسب والقرابة وهي الرباط الاجتماعي.

3- كان شعار المسلمين في بدر “أحد، أحد” وهذا يعني أن القتال في سبيل عقيدة تتمثل بالعبودية للإله الواحد، فلا العصبية ولا القبلية ولا الأحقاد والضغائن ولا الثأر هو الباعث والمحرك ولكنه الإيمان بالله وحده.


ومن هذا المنطلق كانت صورة الإيمان مختلفة المظاهر واحدة في مضمونها
:

 وهذه الواقعة تعبر بعض التعبير عما تكنه نفس هذا الصحابي، وهي في نفس الوقت تلقي الضوء الكبير على غايات هذه العقيدة وأهدافها فالعدل والنصف يأخذان مجراهما حتى في أرض المعركة، وحتى لو كان ذلك من القائد نفسه، وحتى لو كان القائد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله إذ يرفع ثيابه عن بطنه الشريف لم يكن يدري إلا أنه يفسح الفرصة للرجل ليأخذ حقه. ولذا سأله فيما بعد. . (ما الذي حملك على هذا؟).

 لهذه المعاني وأمثالها فاز يوم بدر بهذه التسمية “يوم الفرقان” وكان حضروه شرف الريادة. فقال صلى الله عليه وسلم في حقهم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم) (12). وفي الحديث

[جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ قَالَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ]

البخاري المغازي باب شهود الملائكة بدراً (3992).

 لهم ما لأهل بدر:

وإذا كانت بدر بهذه المكانة فمن العدل الذي جاء به الإسلام ألا يحرم منها قوم تخلفوا بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمهام أو كلها إليهم. فضرب لهم بسهمهم من الغنيمة وبأجرهم فكانوا كمن حضرها، وهم:

  • عثمان بن عفان: تخلف بأمره صلى الله عليه وسلم على زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة مرض الموت وجاء البشير بالنصر وقد فرغوا من دفنها رضي الله عنها.
  • طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد. كانا في مهمة استطلاعية تتعلق بالعير.
  • أبو لبابة: استخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة
  • عاصم بن عدي: أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمة لأهل العالية – في المدينة-.
  • الحارث بن حاطب: أرسله صلى الله عليه وسلم في مهمة إلى بني عمرو بن عوف.
  • الحارث بن الصمة: وقع أثناء الطريق فكسر فرد.
    خوات بن جبير: أصابه في الطريق حجر في ساقه فرده من الصفراء.

وقد يتساءل بعضهم كيف يضمن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجر وهو في يد الله تعالى ولا سلطان لأحد عليه؟ والجواب واضح: فالذين ذكروا هم أحد رجلين: إما رجل تخلف لمهمة أوكلها إليه صلى الله عليه وسلم، وإما رجل خرج ملبياً النداء ثم منعه بعد ذلك مانع. فالجميع كانت لديهم نية الخروج والعزم عليه بل بعضهم خرج ورد، والحديث الشريف يقول:

[مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً]

والهم هنا أقل من العزم ومباشرة العمل. ولذا كان ضمان الأجر لهم تطبيقاً للنظام العام وفاء بالعدل وإحقاقاً للحق.

 قريش والهزيمة:

كان الحيسمان بن عبدالله الخزاعي أول من قدم مكة بمصاب قريش فلما سئل جعل يعدد القتلى، حتى ظنه بعضهم قد فقد عقله، فقال صفوان بن أمية – برهاناً على جنونه- سلوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان؟ قال: هو ذاك جالس في الحجر.

 

ولم يطمئن أبو لهب لما سمع حتى قدم أبو سفيان بن الحارث فقام فجلس إليه – والناس قيام عليه – فقال: أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا. .

وهكذا ذهب عن أعين القوم ما كان يغشها، وبدت أمامهم الحقيقة جلية وارتفعت الأصوات بالبكاء، وقطعت النساء شعورهن. . وناحت قريش على قتلاها شهراً. . ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا.

 

وعلا الحقد في النفوس وظن بعضهم أنه يمكنه تدارك ما فاته في المعركة بالغدر والخديعة. وها هو صفوان بن أمية وعمير بن وهب الجمحي يجلسان في الحجر يتساران. وقد فقد الأول أباه، وكان ابن الثاني أسيراً في يد المسلمين، فقال عمير: أما والله لولا دين عليَّ وعيال أخشى عليهم الضيعى بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله، فقال صفوان: عليَّ دينك وعيالك مع عيالي                                                                                                                                                                                                    فقال عمير: فاكتم شأني وشأنك، قال: سأفعل. . وانطلق فقدم المدينة – وقد سم سيفه – ووقعت عين عمر عليه، وقد أناخ على باب المسجد، فقال: هذا الكلب عدو الله ما جاء إلا لشر، ثم ذهب فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فأدخله عليَّ). فأخذ عمر بحمالة سيفه فلببه بها ثم أدخله. فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: (أرسله يا عمر ادن يا عمير. . فما جاء بك؟) قال: جئت لهذا الأسير، قال: (فما بال السيف في عنقك؟) قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال (اصدقني ما الذي جئت له؟) قال: ما جئت إلا لذلك. قال: (بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ثم قلت: لولا دين علي. . لخرجت حتى أقتل محمداً. والله حائل بينك وبين ذلك).                                                                                                                                                                                                                                                                                              فقال عمير: أشهد أنك رسول الله هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان. فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ثم شهد شهادة الحق، فقال صلى الله عليه وسلم: (فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن وأطلقوا أسيره).

وباءت مكيدة صفوان بالفشل لتضم مسلماً جديداً إلى صف الدعوة. . وفقدت قريش قادتها وزعمائها وفي مقدمتهم أبو جهل ومات أبو لهب بعد ذلك بأيام في مكة شر ميتة. وهكذا تجاوز المسلمون عقبة كأداء في طريقهم. . ولكن الذين بقوا قد أججت المصيبة نار العداوة في قلوبهم. واندفعوا في التماس وسائل الكيد للإسلام ولرسوله.

من فقه الإيمان:

حينما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليها كل من استطاع ذلك من المسلمين في مكة. وحبس من مكان مضطهداً ولم يستطع ذلك، فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صف المشركين. منهم: عبد الله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه.

فأما عبد الله بن سهيل بن عمرو فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معه المعركة، وكان أحد الصحابة الذين نالوا هذا الشرف العظيم (13).

وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعاً (14). فقتلوا تحت راية الكفر. فنزل في حقهم قوله تعالى:

{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰٓئِكَ مَأْوَٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا}

سورة النساء الآية 97.

قال ابن عباس: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة – وكانوا يستخفون بالإسلام – فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فنزلت

{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ. . .}.

إنهم لم يعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوفرة ولم يكن الفاصل كبيراً بين الصفين، ولن يعدموا – لو أرادوا – الفرصة في الانتقال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عبد الله بن سهيل.

إن وجود المسلمين في صف المشركين جريمة مضاعفة. وذلك أن الإسلام لا يقبل من الفرد المسلم أن يتخلف عن مساعدة المسلمين – وهو قادر على ذلك – فكيف يقبل منه أن يكون في مساعدة المشركين. إن هذا الأمر الذي يبدو هيناً؛ ليس كذلك لا في المقياس المعنوي ولا في المقياس المادي.إن وجود الفرد المسلم في صف المشركين يعني أن الصف المسلم خسر فردين. فقد نقص هذا الفرد من الصف الإسلامي. وهذا يشكل نقص عنصر. ثم لما عمل في صف المشركين. فهذا يعني أن عدد المسلمين نقص إزاء عدد المشركين فرداً آخر. وبهذا تصبح فعالية الفرد مضاعفة.

على أن الإيمان لا يسمح للمسلم أن يسخر فوته أو عقله أو لسانه. . في خدمة الشرك وأهله. . وحينما يحصل فليراجع صاحب الإيمان إيمانه. ومدعي الإسلام إسلامه؟

إن خلط الإيمان بأي خليط آخر يفسده. ذلك أن الإيمان في صفاته غير قابل أن تشوبه شائبة. سواء أكان ذلك على المستوى الفردي في شخصية الفرد أم على المستوى الجماعي في بناء الأمة. ففي حديث مسلم عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ:

[خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ لَا قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ. .]

أخرجه مسلم برقم (1817).

إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته. ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه. فإذا كان كذلك كان لصاحبه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله. إن الإيمان يصبغ السلوك. فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة ومن خلال السمت والانفعال، ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين لأن الإيمان الذي أدعوه لم توجد مستلزماته فلم يؤت ثماره.

المدينة بعد بدر:

خرج المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدر وخلفوا وراءهم في المدينة المسلمين الذين لم يشتركوا – لعدم توقعهم أن تكون معركة – والمشركين من الأوس والخزرج الذين لم يسلموا. واليهود الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر على الرغم من العقد الذي كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهكذا كان اليهود ومن ورائهم المشركون الذين يوادونهم ينتظرن أن تصلهم الأخبار التي تسوء المسلمين، بل إن بعضهم بدأ يعيب الإسلام علانية ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه، ومن هؤلاء كعب بن الأشرف وعصماء بنت مروان. . . وأبو عامر الراهب. . وأبو عفك.
وجاء زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة بانتصار المسلمين، وقتل من قتل من المشركين. وفرح المسلمون. .
وحزن اليهود والمشركون أيما حزن حتى قال كعب بن الأشرف: أحق هذا؟ أترون محمداً قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان – يعني زيداً وعبد الله – فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
ولما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة وجعل يحرض على رسوله الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب ثم رجع إلى المدينة فجعل يشبب بنساء المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله). قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: (نعم. .) (15).
وقام محمد بن مسلمة مع رجال من الأوس بقتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود وبهذا لقي جزاء خيانته وغدره ونقضه العهد.

وأما أبو عفك: فهو رجل يهودي من بني عمرو بن عوف. وكان شيخاً كبيراً يحرض الناس على القتال النبي صلى الله عليه وسلم ويقول فيه الشعر يهجوه به، فقال صلى الله عليه وسلم: (من لي بهذا الخبيث؟) فقال سالم بن عمير: علي نذر أن أقتله أو أموت دونه. وجعل يطلب له غرة. . إلى أن علم أنه نائم بفناء داره في ليلة حارة فأقبل عليه وقلته (16).

 وكانت عصماء بنت مروان اليهودية تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحرض عليه وتقول الشعر. ولما كان صلى الله عليه وسلم في بدر قالت في الإسلام وأهله أبياتاً، فسمعها عمير بن عدي – وكان أعمى – فنذر إذا رد الله رسوله سالماً ليقتلنها. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفه وذهب ليلاً فدخل بيتها وهي نائمة فجسها بيده تأكداً منها ثم أنفذ سيفه فيها ورجع فصلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وقال: هل علي في ذلك من شيء فقال: (لا ينتطح فيها عنزان) – وهذه الجملة أول من قالها النبي صلى الله عليه وسلم  أي لا يعارض فيها أحد وهي إقرار له على ما فعل.

 وأثنى صلى الله عليه وسلم على عمير فأقبل على الناس وقال: (من أحب أن ينظر إلى رجل كان في نصرة الله ورسوله فلينظر إلى عمير بن عدي)، فقال عمر: انظروا إلى هذا الأعمى الذي يرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (مه يا عمر فإنه بصير)، وقد سماه البصير.

 وخرج أبو عامر عبد عمرو بن صيفي – وكان يسمى الراهب فسماه الرسول الله  صلى الله عليه وسلم الفاسق – إلى مكة مباعداً لرسول الله ومعه بعض الغلمان من الأوس وجعل يحرض قريشاً ويعدها بالنصر. . وبقي فيها إلى أن عاد مع قريش إلى أحد. . .

وهكذا كان انتصار المسلمين في بدر وسيلة لتخرج بعض النفوس ما فيها مما كانت أخفته. ولا شك أنه كان مثل هؤلاء غيرهم، ولكن الرسول ما كان ليحاسب الناس إلا على ظاهرهم، ولقد أخل هؤلاء بالعقد الذي أبرمه صلى الله عليه وسلم. بل وخرج بعضهم على التقاليد المتبعة، حين عرضوا بنساء المسلمين. فكان لا بد من أن يلقوا جزاءهم.

 على أنه ينبغي أن نتوقف عند هذه الحوادث. فقد دعى صلى الله عليه وسلم إلى الأولى والثانية وأقر الثالثة، ذلك أن هؤلاء كانوا يمثلون الإعلام المعادي في ذلك الوقت. فشرهم ليس قاصراً علي أنفسهم بل تعداهم إلى غيرهم فهم مثيرو الفتن وموقدو نار الحرب. . إذا كانت الكلمة تأخذ مأخذها، وكان البيت من الشعر يفعل فعله. فكان لا بد من إسكات تلك الأصوات. وهذا ما يذكرنا بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث من بين أسرى بدر ذلك أنهما كان من المستهزئين. . فكان النضر يقول في القرآن: إنه أساطير الأولين. .

 إن الذين يحاربون الإسلام بأقلامهم وكلماتهم ليسوا أقل خطراً من الذين يحاربونه بسيوفهم وسلاحهم، بل إن أثر هؤلاء أعم وخطرهم أشمل فهم أداة التحريض وهم الشرر الذي يوقد النار. وقد كان الشعر – يومئذ – هو الوسيلة الإعلامية المؤثرة. ولذا استحق أولئك ذلك الجزاء وإن كانت كل جريمة أخرى لهم كافية لتناسب العقوبة معها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ورد ذكر الأغلبية في رواية عمر عن الإمام أحمد ومسلم في قوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً عمر: (للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء. . ) البداية 3/ 297.

2. رواه الإمام أحمد انظر البداية 3/ 297 وكذا تفسير ابن كثير.

3. لعل مما يؤيد هذا: إن الآية الكريمة بدأت بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ} ثم انتقل الخطاب من أسلوب الغيبة والحديث بصيغة الإفراد إلى الخطاب بصيغة الجمع {تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا}.

4. الجذل: أصل الشجرة.

5. ابن هشام 1/ 637.

6. شرح الزرقاني 1/ 439 نقلاً عن الطبراني.

7. ابن هشام 1/ 647 وأبو سفيان هذا هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

8. ابن هشام 1/ 643.

9. الكامل 2/ 325.

10. من حديث مسلم (1901).

11. سيرة ابن هشام 1/ 626.

12. البخاري، المغازي باب فضل من شهد بدراً (4274) ومسلم (2494).

13. سيرة ابن هشام 1/ 368.

14. سيرة ابن هشام 1/ 641.

15. البخاري ومسلم.

16. ذكر القسطلاني هذه الحادثة بعد بدر وكذلك حادثة قتل عصماء، وذكرهما ابن هشام بعد حجة الوداع، وواضح أن هذا المكان أنسب لأن في ذلك الوقت المتأخر لم يعد لهذه الأصوات أثر خاصة وأن اليهود أخرجوا من المدينة جميعاً بعد غزوة الخندق. انظر شرح الزرقاني 1/ 453 و 455 وابن هشام 2/ 635، 636.

مواضيع ذات صلة