×

كلمة وداع

يغلب على الظن أن جبير بن مطعم رضي الله عنه نقل لنا في حديثه مطلع خطبة النبي ﷺ، وذلك قوله:

(أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا بِمَكَانِي هَذَا. فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَ مَقَالَتِي الْيَوْمَ فَوَعَاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ وَلَا فِقْهَ لَهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ..).

والجملة الأولى وحدها كافية لشد انتباه الناس، واستماعهم بوعي كامل لما يقوله ﷺ، فهي نصيحة مودع.

ثم أكد ذلك بالدعوة بالرحمة لمن سمع ووعى.

والمستمع مطلوب منه أمران:

– أن يستفيد هو مما يسمع في خاصة نفسه.

– وأن ينقل ذلك لغيره حتى يستفيد الغائب الذي لم ينله شرف الاستماع.

وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم ينقل الواحد منهم ممن حضر مجلساً من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم إلى من غاب منا سمعه منه ﷺ.

بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، حيث يتفق اثنان أن ينقل الحاضر للغائب منهما ما سمع، وذلك ما قصه علينا عمر بن الخطاب حيث قال: “كان لي صاحب من الأنصار، إا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه بالخبر” (1).

وهكذا يظل كل واحد من الصحابة على صلة بما استجد من أحكام.

ولنقف أمام هذا المشهد الذي ينقل لنا صورة حية عن تعاون الصحابة في نقل المعلومة لمن غاب.

قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: 

كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ).
قَالَ: فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيَّ يَقُولُ الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ قَالَ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفًا قَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوَضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ) (2).

وما من شك في أن كل صحابي كان ينقل لزوجته وأهل بيته ما يسمع، ومما يؤكد هذا أن معظم ما روته أن الدرداء رضي الله عنها كان مما سمعته من زوجها أبي الدرداء رضي الله عنه.

وهكذا كانت المعلومة تنقل سريعاً إلى عامة الصحابة رضي الله عنهم.

فما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان معمولاً به، ولكنه في هذه الخطبة يؤكد عليه لما له من خطر.

_______________________

1. أخرجه البخاري (4913) ومسلم (1479).

2. رواه مسلم (234).


وهذه المقدمة تؤكد على مكانة العلم في بنيان الأمة، ولذا كان التأكيد على ضرورة نقله وتداوله، فالعبادات لا تؤدي إلا بالعلم، والمعاملات لا تكون صحيحة إلا من عالم بأحكامها.

وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا نقل المعلومة إلى جاهل بها، ومن هنا كان الواجب إيصالها إليه بكل اللطف والبعد عن التجريح أو الانتقاص.

ولقد سمع الصحابة رضي الله عنهم من قبل قوله ﷺ:

“بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً” (1)

فعملوا بذلك، وكم من آية سمعها مسلم فغيرت مجرى حياته، وما قصة توبة الفضيل بن عياض رحمه الله إلا مثالاً من الأمثلة الكثيرة على ذلك.

_______________________

1. رواه البخاري (3461).

 

 

مواضيع ذات صلة