كان المسجد الحرام في مكة هو النادي الذي يجتمع فيه القوم، أما هنا في يثرب فلم يكن الأمر كذلك. وكان على أسعد بن زرارة أن يذهب بمصعب إلى مجالس القوم.
ودخل أسعد ومعه مصعب حائطاً (1) لبني ظفر حيث كان يجلس بنو عبد الأشهل وبنو ظفر، وجلسا وجلس إليهما رجال ممن أسلم.
ووصل الخبر إلى سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وهما يومئذ سيداً قومهما، من بني عبد الأشهل – وكلاهما مشرك على دين قومه – فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وأنههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أسعد مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً.
وأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب هذا سيد قومه، وقد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما شاتماً فقال:
– ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.
_______________________
(1) الحائط: البستان.
– قال مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره.
– قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما. . .
وتكلم مصعب فقرأ عليه القرآن وعرض عليه الإسلام. . فقالا: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقة وجهه. . . ثم قال: ما أحسن هذا. . . وشهد شهادة الحق. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن.
وانصرف أسيد إلى سعد وقومه، فلما نظر إليه سعد مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به. . . فلما وقف أسيد على القوم قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت. ثم قال له وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك.
وكانت تلك كلمة من أسيد ليبعث بسعد إليهما.
وقام سعد بن معاذ مغضباً، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما. . . وتكررت الحادثة مع سعد بن معاذ. وكان أسعد قد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. . وعرفا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم. . ثم شهد شهادة الحق.
ورجع إلى قومه – وقد عرفوا في وجهه، ما رأى هو في وجه أسيد حينما جاءه – فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأياً. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلى مسلماً أو مسلمة. . ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام. . . (1).
وهكذا ذهب سعد بن معاذ ليصد عن الدعوة، فعاد داعياً إليها. . إنه حينما يعمل العقل صافياً بعيداً عن الترهات والتقاليد، لن يجد في الإسلام إلا السبيل الأمثل لصلاح الناس. لقد كان أسيد بن خضير ومن بعده سعد بن معاذ مثالاً للرجل الواعي الذي لم يلتزم حكمه المسبق على دعوة الرجلين. . إنهما أنصتا إليها فوجدا فيها بغية كل عاقل منصف. إن الإسلام ليس شعوذة ولا ترهات، لا يعمل أثرها في النفس إلا حينما يغيب العقل. إن الإسلام هو كلمة الحق التي لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا حكم العقل.
ثم إنه مما يستوقفنا ذلك الأثر الذي أحدثه الإيمان في النفوس، إن سعد بن زرارة ومصعباً عرقا الإيمان في وجه أسيد ووجه سعد قبل أن يتكلما. وعرف سعد أثر الإيمان في وجه أسيد. . وعرف القوم التغير في وجه سعد. . إن الإيمان ليس حلة ترتدي فتغير المظهر الخارجي. إن الإيمان تغيير داخلي يشمل كيان الإنسان كله. ثم يصل في جملة ما يصل إلى المظهر الخارجي حيث تبدو بشاشته على الوجوه بعد أن خالطت القلوب.
إن الإيمان قناعة كلية تمتلك على الإنسان كل حواسه وقدراته فتسيرها في الطريق السوي، ومن أول معالمه حب الخير للآخرين كما أحبوه لأنفسهم، ومن هنا كان حرص أسيد بن حضير على أن يسمع سعد لغة الإيمان من مصعب، ثم كان وبالأسلوب نفسه حرص سعد على إسلام قومه.
_______________________
(1) سيرة ابن هشام 1/ 435.
ونعود إلى أسعد بن زرارة وهو يوصي مصعباً بالصدق مع الله في دعوة الرجلين، هل كان مصعب بحاجة إلى وصية؟ ما نظن ذلك، ولكنه الحرص على الإيمان أن يدخل قلب الرجلين، ومعرفته بخطرهما على قومهما دفعه إلى التذكير وبيان خطورة الموقف. ولقد كان أسعد يدري من هو سعد ويعلم أن إسلامه له ما بعده وعدم إسلامه له ما بعده. . فكانت الكلمات في موقعها. . تنبع من معين الإيمان قاصدة وجه الله عز وجل. وحينما تنبع الكلمات من القلوب لا بد – بإذن الله – أن تجد طريقها إلى القلوب.
وتابع مصعب مهمته. . فقد اتسعت دائرة العمل. . ودخل الإسلام البيوت وكان عليه أن يفقه الناس بتعاليم الإسلام وأخلاقه، كما كان عليه أن يدعو إليه أولئك الذين ما زالوا على شركهم. . ومضى عام من العمل الدؤوب. . . وبدأت الثمار قريبة القطاف. وحان موسم الحج. . .